ما حدث فى تمويل مشروع شهادات قناة السويس من تدفق 64 مليار جنيه على البنوك فى ثمانية أيام يدعو للدهشة. وقد يرى البعض أنه لا داعى للدهشة لأن فائدة الشهادات مغرية لكل مستثمر، وأن ما حدث فى الغالب انتقال من وعاء ادخارى لوعاء ادخارى آخر يُحقق ربحا أعلى. وكل هذه التحليلات لها وجاهتها، ولكن ما أثار دهشتى ليس مجرد تدفق 64 مليارا فى ثمانى أيام، ولكن فى التفاصيل التى أعلنها محافظ البنك المركزى حول تحليل طلبات الشراء المنفذة من حيث عددها وقيمتها
ذكر محافظ البنك المركزى أن 82% من طلبات الشراء جاءت من أفراد أى أن عددهم 902 ألف مواطن مصرى، وضخامة عدد المشترين، والذى يقترب من المليون يؤكد أن المشترين ليسوا من كبار رجال الأعمال الهدفين إلى تحقيق ربح أعلى، وبالتالى فإننا بصدد ظاهرة مشاركة شعبية حقيقية فى ظروف اقتصادية ضاغطة.
وما أثار دهشتى ربما بدرجة أكبر وأثار سعادتى أيضا هو المعلومات التى أعلنها محافظ البنك المركزى حول أعداد المشترين حسب قيمة الشهادات المشتراه. ذكر المحافظ أن 170 ألف مواطن اشترى كل واحد منهم شهادة بمبلغ عشرة جنيهات، وأن هناك 150 ألف مواطن اشترى كل واحد منهم شهادة بمبلغ مائة جنيه. وهى أرقام لها دلالاتها التى يجب التوقف عندها. فالمواطن الذى يتكبد مشقة الانتقال من منزله إلى البنك ويقف فى الطابور لفترة طويلة ليشترى شهادة بعشرة جنيهات لم يتخذ قراره الاستثمارى بناء على حسابات المكسب والخسارة. ويعلم المواطن أن العشرة جنيهات لن تضيف له بعد خمس سنوات سوى ستة جنيهات، وبالتالى فمن المؤكد أنه يعتبر هذا المبلغ تبرعا لمساندة المشروع ولمساندة الوطن الذى شعر أنه يحتاج إليه لتنفيذ مشروع يتوق له الجميع. ونفس الشىء ينطبق على الشريحة الثانية التى أسهمت بمائة جنيه فهى من المؤكد لم تشارك طمعا فى ربح أعلى ولكن لأسباب وطنية تعكس مشاعر الإحساس بالمسئولية.
إذا حسبنا إجمالى قيمة استثمارات هؤلاء المواطنين الذين بادروا بالمشاركة فى التمويل لأسباب لا تمت بصلة لتحقيق مكسب مادى نجد أنها تصل إلى 16.7 مليون جنيه، وهو مبلغ زهيد مقارنة بإجمالى التمويل ولا يصل إلى واحد فى الألف من المبلغ الذى تم جمعه، وربما يقل بكثير عن مساهمات رجل أعمال واحد. ولكنى أراه مثل الهدية التى يقدمها ابن لأمه فى عيد الأم، وقد استقطع ثمنها من مصروفه البسيط، والهدية قيمتها المادية بسيطة ولكن دلالتها المعنوية بالنسبة للأم تفوق بكثير قيمتها المادية.
دلالة هذه الواقعة يجب ألا نمر عليها مر الكرام، وهنا أشير إلى أمرين:
أولا: إن من يفكر فى مستقبل مصر فى ضوء المعطيات الاقتصادية، وفى ضوء التحديات الداخلية والخارجية وفى ضوء تراجع العديد من المؤشرات التنموية ومؤشرات التنمية البشرية مقارنة بدول العالم يصاب بالإحباط. إلا أن المراهنة على المواطن المصرى بما يمتلك من مخزون حضارى كامن تحت هذه القشرة من الصدأ قد يغير الحسابات ويدعو إلى التفاؤل بالمستقبل. لا أقول هذا الكلام لأستدعى رومانسية تخفف من التحديات التى تواجهنا، ولكنى أظن أن المراهنة على إطلاق العنان للقوة الكامنة التى اختزنها الشعب المصرى عبر القرون تستحق بلا شك أن نراهن عليها. وما قام به الشعب المصرى فى حرب 73، وما قام به فى ثورة 25 يناير وثورة 30 يونيو كان استجابة لتحدى أطلق قوة لا يمكن قياسها فى أعقد النماذج الرياضية والإحصائية التى تستخدمها مراكز الأبحاث السياسية لتحاول توقع ردود أفعال الشعوب.
ثانيا: أعتقد من واجب الحكومة أن تعى رد الفعل الإيجابى للشعب عندما شعر بصدق النوايا وجدية التنفيذ. الفرصة التى أرجو ألا تضيع هو عدم النظر لهذه الواقعة بمعزل عن السياق العام الذى يمر بمصر. وأقصد هنا أن رد الفعل الإيجابى فى تمويل شهادات استثمار قناة السويس يمكن أن يتكرر فى مشروعات أخرى تغير وجه الحياة فى مصر، ولا يقتصر الأمر على جمع تمويل لمشروعات أسمنتية، وإنما يمكن أن يمتد أيضا إلى مشروعات قومية «افتراضية» مثل النهوض بالتعليم أو محو الأمية. وتكرار هذا النمط ممكن إذا قامت الحكومة برد الجميل من خلال التعامل مع الشعب المصرى بشكل لائق يحترم حقوقه ولا يستخف بعقليته.
أقول هذه النصيحة للنخب الحاكمة ولا أقصد رئيس الجمهورية فقط، بل أيضا لدائرة اتخاذ القرار وعلى وجه الخصوص الأجهزة الأمنية التى تلعب دورا هاما فى إعادة بناء مؤسسات الدولة وبنيتها التشريعية. وأبسط ما يجب أن تقوم به الحكومة هو شفافية وإفصاح كامل عن المعلومات حول مشروع قناة السويس.
ومن المناسب فى هذا الصدد أن أشير إلى أن الموقع الإلكترونى لمجلس الوزراء لا يحتوى أية تفاصيل عن متابعة تنفيذ المشروع، على الرغم من أن هذه المتابعة تتم (على حد علمى فى اجتماعات مجلس الوزراء)، كما أن موقع هيئة قناة السويس لا يحتوى سوى 5 أسطر حول المشروع. ألا يستحق هذا الشعب وهو شريك فى ملكية المشروع تقرير حول العائدات المتوقعة من المشروع (ما نشرته وسائل الإعلام يتراوح بين 5 أضعاف إلى 100 ضعف الإيرادات الحالية) مع تحديد لمؤشرات الأداء المستخدمة لتقييم مدى نجاح المشروع فى تنفيذ أهدافه، ألا يستحق أصحاب المشروع تقريرا أسبوعيا أو حتى شهريا عما يتم إنجازه فى المشروع بناء على مؤشرات أداء تشمل التدفقات النقدية وفرص العمل التى يولدها المشروع ومدى الالتزام بالبرنامج الزمنى.
هل حق المعرفة يقتصر على كبار المسئولين فقط. وإذا أنكرنا على أصحاب المشروع حق المعرفة، وطبقنا المفهوم الضيق «المعرفة على قدر الحاجة» ألسنا بحاجة إلى محاربة استباقية للشائعات التى قد تشكك فى المشروع، ثم ألسنا بحاجة إلى الحفاظ على ثقة الشعب وإلى استمرار مشاركته فى مشروعات قادمة، وأخيرا ألسنا بحاجة إلى إحساس المواطن بالإنجاز؟
وفى النهاية هل تعودنا على أن نخشى الحقيقة حتى لو كانت فى صالحنا؟
الشروق