بعض التصرفات الضارة نقوم بها لأننا نستمتع بها، فالمدخنون مثلا يعلمون أن التدخين ضار بالصحة ولكنهم يستمتعون بممارسة التدخين، وقد يكون ذلك مفهوما على مستوى الفرد، ولكن هل يمكن قبوله على مستوى المجتمع؟
وكما أن التدخين خطأ ممتع للمدخنين فإن هناك قرارات وسياسات عامة خاطئة ولكنها ممتعة لأنها تشعرنا بالعدالة أو لأنها تثير فينا الإحساس بالزهو وهى سياسات قريبة للقلب ولكن يرفضها العقل. ومن هذه السياسات التوظيف الحكومى ودور الدولة فى إدارة أدوات الإنتاج والتوزيع والدور المدنى للقوات المسلحة، وفيما يلى بعض التفصيل:
•التوظيف الحكومى
نعلم جميعا أن الجهاز الحكومى متخم وأن إنتاجية الموظف الحكومى منخفضة وأن نسبة غير قليلة من موظفى الحكومة يستفيدون من تعطيل مصالح المواطنين. ولا يخفى على أحد أن بند المرتبات فى الموازنة العامة للدولة وما يترتب عليها مستقبلا من معاشات ومزايا اجتماعية عبء كبير يتحمله الجميع ويُستقطع من الإنفاق على أولويات لا خلاف عليها. وعلى الرغم من ذلك فإن الجميع يسعى بشكل مباشر أو غير مباشر إلى الحفاظ على الحجم الحالى للحكومة. وأظن أن بعض القرارات والسياسات التى تتخذ ستؤدى إلى زيادة التوظيف الحكومى إذا ما تم تنفيذها بأسلوب تقليدى، وعلى سبيل المثال قرارات مثل التوسع فى الجمعيات الاستهلاكية ووضع مزيد من المساجد تحت إشراف وزارة الأوقاف.
• إدارة الدولة لعناصر الإنتاج
ملكية الدولة لوسائل الإنتاج تدغدغ مشاعر كثير من المصريين، وفى ظل مناخ عام معادى للقطاع الخاص ولرجال الأعمال يرى البعض فى المصانع والمزارع الحكومية الحل لمواجهة احتكار رجال الأعمال ولمواجهة ارتفاع الأسعار. وهو تبسيط مفرط يتجاهل أهمية الدافع الشخصى فى الإنتاج وفى الإبداع وفى المخاطرة ويتجاهل نقص القدرات فى الجهاز الحكومى، كما أنه يتجاهل نتائج تجربة التأميم فى الستينات، والأهم أنه يتجاهل الواقع المصرى. كثيرا ما يتردد الحديث عن المحلة الكبرى كقلعة صناعة الغزل والنسيج والملابس، وتخرج الأصوات لتطالب بضرورة دعم الدولة لشركات الأعمال العامة العاملة فى هذه الصناعة الهامة. والحقائق على الأرض تقول إن هذا القطاع بما فى ذلك صناعة الملابس يعمل به نحو مليون عامل 5% منهم فقط يعمل بقطاع الأعمال العام وباقى الـ95% يعملون فى القطاع الخاص. كما أن قطاع الأعمال العام يتم دعمه سنويا حتى يحصل العاملون بقطاع الأعمال العام على مستحقاتهم المالية. ومع ذلك فإن رومانسية ملكية الدولة لأدوات الإنتاج تطغى على كل منطق. فهل نفكر فى الأمر من خلال فصل الملكية عن الإنتاج أم نصر على أن تدير الدولة الإنتاج ونمنى أنفسنا ونحن نكرر نفس الأساليب ألا نصل إلى نفس النتائج.
• إدارة الدولة للخدمات
الحديث عن عودة الجمعيات الاستهلاكية يبدو حديثا منبتا عن خبرات الماضى، يوحى بأن المجتمع المصرى يعانى من فقدان الذاكرة ويتناسى الفساد الذى شهدته التجربة فى زمن كانت الدولة أكثر قوة والأخلاقيات أقل تلوثا، ويتجاهل أن الجمعيات الاستهلاكية لا تتواجد فى الريف الأكثر فقرا وأن لها منافذ فى مناطق يسكنها الأغنياء. ومع ذلك فرومانسية الفكرة لم تترك الفرصة للعقل الذى يحسب التكلفة الفعلية والعائد والكفاءة.
وفى ذات الوقت يخفق العقل المصرى فى استدعاء نماذج ناجحة بديلة عن الخصخصة الكاملة التى أهدرت ثروات الوطن وبديلة عن قيام الدولة بإدارة شبكات تقديم الخدمات. والنموذج الناجح الذى يجب استدعاؤه هو دور الدولة فى قطاع الاتصالات، الذى بدء منذ 15 سنة ونجح فى إحداث طفرة فى الخدمة الهاتفية، وتمكن من نشر الخدمة على نحو غير مسبوق وفى نفس الوقت أدخل استثمارات أجنبية ضخمة وخلق فرص عمل بعيدا عن الجهاز الإدارى للدولة، وأضاف لخزينة الدولة عائدات وضرائب سنوية ضخمة، بدلا من أن يطلب من الدولة دعما لتمويل حوافز عاملين لم تحقق شركاتهم أرباحا. هذا النموذج لو نجحنا فى استنساخه فى قطاعات أخرى لأصبح اقتصادنا فى مركز أفضل بكثير.
• دور القوات المسلحة
من المؤكد أن المهمة المقدسة للقوات المسلحة هى الحفاظ على أمن الوطن من أى تهديد خارجى، يضاف إليها التعامل مع التهديدات التى تواجه الوطن من الداخل إذا كان حجمها يفوق قدرة أجهزة الشرطة. وفى الحالة المصرية فالقوات المسلحة لديها الكثير من الأعباء والتحديات سواء خارجية أو داخلية. إلا أن المزاج العام لجمهور عريض من المواطنين يميل إلى دور شامل للمؤسسة العسكرية تكون فيه مسئولة عن إنشاء الطرق وبناء وحدات سكنية واستصلاح الأراضى ولا مانع من أن تكون أيضا مسئولة عن إنتاج الخبز وتقديم الرعاية الصحية للمرضى. وهى حالة رومانسية تستدعى الجيش باعتباره مؤسسة محصنة ضد التسيب والفساد، وهى حالة رومانسية تتجاهل أولويات القوات المسلحة من جهة وتتجاهل، من جهة أخرى، التكلفة المترتبة على إرساء قاعدة أن كل ما هو غير عسكرى يكون بالضرورة غير كفؤ وغير نزيه. وهنا يجب أن نصارح أنفسنا دون خجل بأنه مع التسليم بكفاءة ومهنية القوات المسلحة المصرية إلا أن هناك إخفاقات ستحدث حتما عندما تُلقى عليها مهام غير عسكرية لا تقع ضمن دورها الذى يتم إعدادها للقيام به، وهى نتيجة طبيعية تتسق مع سنن الحياة فى كل زمان ومكان.
أمثلة أخرى عديدة لسياسات عامة تتجاهل الدروس المستفادة من تجارب الماضى منها تمويل التعليم الجامعى والتجاوز فى ملف حقوق الإنسان والتعامل مع الاستثمار الوطنى والأجنبى، وفى كل هذه الحالات وغيرها فإن الولع بالسياسات العامة القريبة للقلب والبعيدة عن العقل هو الطريق المضمون للفشل المؤكد.
إذا كان إعادة إنتاج الأخطاء خطيئة لا تغتفر، فإن التمتع بإعادة إنتاج هذه الأخطاء هو أم الخطايا.
الشروق