من المنطقى أن يرى أى مسئول حكومى ـ ولا أقصد مسئولا حكومة معينة ـ أن الوضع الأفضل أن تكون الأمور تحت السيطرة فى مجال عمله وفى نطاق مسئولياته. ولكن يظل تعريف «تحت السيطرة» هو مربط الفرس فى علاقة الحكومة بالآخر سواء كان هذا الآخر هو المواطن أو منظمات المجتمع المدنى أو القطاع الخاص.
وبعيدا عن السياسة، أذكر أنه منذ نحو عشر سنوات شاركت فى حلقة نقاشية عن دور الجمعيات الأهلية فى برامج تنظيم الأسرة وأشارت الدراسات المعروضة إلى تراجع دور الجمعيات الأهلية فى تقديم خدمات تنظيم الأسرة من حوالى 10% إلى حوالى 5%. وأذكر أن تعليق وزير الصحة فى ذلك الوقت ـ والذى أظنه دُهش من ضآلة هذا الدور ـ كان «لماذا تُصدع الجمعيات الأهلية رءوسنا وهم يقومون بهذا الدور المحدود؟ وإذا كانت الحكومة تقوم بـ 95% من عبء تقديم الخدمة فماذا يضيرها أن تقوم بـ 100% من العبء؟». ولا شك أن هذه الأسئلة تبدو لأول وهلة أسئلة مشروعة، ولكن هناك أسئلة أكثر إيجابية كان من الأولى طرحها مثل: ما هو الدور الذى يمكن أن تلعبه هذه الجمعيات ولا تستطيع المؤسسات الحكومية القيام به؟ وكيف نساعدها على ذلك؟
والمغزى أن المسئول الحكومى يرى فى منظمات المجتمع المدنى ضجيج بلا طحين، وينسحب ذلك على معظم المجالات التنموية مثل التعليم والصحة والحماية الاجتماعية والبيئة وتطوير العشوائيات. وفى ذات الوقت يتخوف المسئول الحكومى من الإعتماد على هذه المنظمات فى تنفيذ برامج تنموية لعدم وجود آليات واضحة لمساءلة المنظمات التى تفشل فى تحقيق برامجها، فهو يرى أن هذه المنظمات تدخل معه فى منافسة غير شريفة تتقاسم معه النجاح ولا تشاركه الفشل. وفى النهاية، فالمسئول الحكومى يرى إما أن تعيش هذه المنظمات فى جلباب الحكومة وإما أن تختفى من الأنظار.
فى ظل هذا المناخ، هل تحتاج الحكومة لمنظمات المجتمع المدنى وهل هناك صيغة للتعاون يخرج منها الكل فائزا؟
بغض النظر عن النظرة الضيقة والرؤية قصيرة الأجل التى لا يجوز الوقوع تحت تأثيرها فى هذه الفترة الفاصلة من تاريخ مصر، أعتقد أن هناك 3 أدوار تجعل الحكومة فى أمس الحاجة لمنظمات المجتمع المدنى من أجل مصلحة الوطن. وهذه الأدوار مترابطة فيما بينها ويجب النظر إليها باعتبارها حزمة واحدة لا تتجزأ:
• مراقبة تنفيذ المشروعات التنموية.
إن التحدى الأكبر الذى يواجه الحكومة فى تحقيق نجاحات فى ظل سجل تاريخى عامر بالإخفاقات (مع بعض النجاحات التى تقع فى حكم الاستثناءات) هو غياب المتابعة والتقييم المستمر. ومع كامل التقدير لأى منظومة للتقييم يتم الإعداد لها فإن تقييم المؤسسة لنفسها هو عبث لا يستحق التجريب. وإسناد هذا الدور لمنظمات المجتمع المدنى هو أفضل بديل مع التسليم بوجود صعوبات تواجه القيام بهذا الدور على الوجه الأمثل، ولكنه الحل الأفضل إذا أردنا النجاح فى الأجل الطويل.
• رصد الفساد لاسيما على المستوى المحلى.
لدى قناعة شديدة بأن بناء الثقة بين الحاكم والمحكوم لن يتحقق إلا إذا شعر المواطن أن جهود مكافحة الفساد واقع فعلى، إن خطابات الرئيس السيسى بها رسائل مباشرة وغير مباشرة تشير إلى جدية فى مكافحة الفساد، فكيف يتحول ذلك إلى واقع؟
هناك أجهزة حكومية عديدة يقع مكافحة الفساد ضمن مهامها وهى ترفض إستحداث كيانات جديدة لمكافحة الفساد، ومع كل الاحترام والتقدير لدور المؤسسات القائمة فإن الفساد لازال مستشريا، والعبرة بالنتائج وليس بالنوايا. والسؤال لماذا لا يُفسح المجال لمنظمات المجتمع المدنى للعب دور فى هذا المجال الذى يحتاج لقدر من الإبتكار ولكثير من الشجاعة وهى صفات ليست بالقطع ضمن التوصيف الوظيفى للموظف الحكومى وليست فى الأغلب من القيم التى يُنشأ عليها وليست بالضرورة من ضمن المعايير التى يُكافأ عليها.
• رصد التجاوزات فى مجال الحقوق والحريات.
هناك جمعيات حقوقية حققت إنجازات رائعة، بعض هذه الجمعيات لحق بها تشويه ظالم أظنه نابع من إختلاف أولويات الأجل القصير، حيث يرى البعض تأجيل الحديث عن الحقوق والحريات لأنه يشتت جهود المجتمع فى مواجهه الإرهاب. وهناك البعض الذى يعتقد أن هذا التأجيل يحسن أن يكون لأجل غير مسمى لأن ضرورة الإصطفاف الوطنى فى معركة مكافحة الإرهاب لا تختلف كثيرا عن معركة مكافحة الفقر أو مكافحة الأمية.
وللفصيل الأول أقول إذا كان التأجيل ضروريا فليكن فى الحسبان أن كل تأخير فى ملف الحقوق والحريات ينتقص من التماسك الاجتماعى ومن رصيد الثقة الذى بدأ يتكون والذى لا غنى عنه لإرساء الانتماء للوطن.
وللفصيل الأخير والذى لا أشكك فى وطنيته أقول أن برامج الحاسوب لديها الإمكانية لإلغاء أى عملية سبق إجراءها (undo)، أما فى التعامل مع الجماهير فإن إعادة عقارب الساعة غير ممكن، كما أن إعادة إنتاج أفعال الماضى لن يؤدى حتما إلا إلى إعادة إنتاج ردود أفعاله. أعتقد أن إفساح المجال أمام منظمات المجتمع المدنى للدفاع عن الحقوق والحريات فى مصر هو الضمان لعدم تكرار أخطاء الماضى سواء كان ذلك بسوء قصد أو بسوء فهم.
هذا الدور ثلاثى الأبعاد لا يمكن تجزئته فالتنمية (العيش) لن تصل للجميع دون مكافحة الفساد (عدالة اجتماعية) والتنمية سيكون مزاقها مر إن لم يتم الحفاظ على الحقوق والحريات (كرامة).
هناك ثلاث مراحل لتطور إدراك السلطة لطبيعة علاقتها بمنظمات المجتمع المدني:
• المرحلة الأولى منظمات المجتمع المدنى طفيليات يجب التخلص منها،
• المرحلة الثانية منظمات المجتمع المدنى شر لابد منه لتحسين الصورة الذهنية لمصر ويجب الحرص على استدعائها فى المشهد عند الضرورة،
• المرحلة الثالثة منظمات المجتمع المدنى هى أحد عناصر النجاح الحرجة للإسراع بتنمية مستدامة طال انتظارها.
والتشريعات المنتظرة ومن بينها قانون الجمعيات الأهلية ستبين إلى أى مرحلة ننتمى.
الشروق