تسعى استطلاعات ما بعد التصويت (exit polls) إلى التعرف على اتجاهات التصويت الفعلية للناخبين عند خروجهم من مراكز التصويت، من خلال مقابلة شخصية يتم إجراؤها عقب انتهاء الناخب من الإدلاء بصوته. وتفيد هذه الاستطلاعات فى التنبؤ المبكر بنتائج، كما تفيد أيضا فى التعرف على خصائص الناخبين الديموجرافية وربطها باتجاهاتهم التصويتية، ويختلف دورها عن جمعيات المجتمع المدنى، التى تراقب الانتخابات.
وتجدر الإشارة إلى أن المدة المطلوبة لظهور النتائج النهائية لأية انتخابات تتفاوت من دولة إلى أخرى، وقد تصل فى بعض الحالات إلى أكثر من أسبوع، لذلك تكتسب هذه الاستطلاعات أهمية خاصة إذا ما نجحت فى التنبؤ المبكر بنتائج الانتخابات، التى يتوق الجميع لمعرفة نتيجتها.
وقد بدأت المحاولات الأولى لإجراء هذه الاستطلاعات فى الولايات المتحدة الأمريكية فى الستينيات، وتطورت عبر الزمن، وانتشر إجراؤها فى باقى دول العالم. وهناك دول كثيرة تتقارب فيها نتائج هذه الاستطلاعات مع ما تسفر عنه النتائج النهائية للانتخابات بشكل يثير الدهشة. وعلى سبيل المثال، فإن استطلاعات ما بعد التصويت للانتخابات البريطانية لعام 2010 توقعت أن يتفوق حزب المحافظين على الأحزاب الأخرى وأن يحصد 49.1% من الأصوات مقابل 41.1% لحزب العمال الذى كان فى سدة الحكم وأن يحصل الحزب الديمقراطى الحر على 9.8% من الأصوات. وجاءت نتائج الانتخابات متفقة مع نتيجة الاستطلاع ليس فقط فى الاتجاه العام للنتائج فى عدم حصول أى حزب على الأغلبية التى تسمح له بتشكيل الوزارة دون الاضطرار للدخول فى ائتلاف مع حزب آخر، وإنما جاءت النتائج التفصيلية للاستطلاع قريبة جدا من نتائج الانتخابات التى انتهت إلى حصول حزب المحافظين على 49.3% وحزب العمال على 41،5% والحزب الديمقراطى الحر على 9.2%.
وتعتمد قدرة هذه الاستطلاعات على التنبؤ الدقيق وعلى عوامل فنية أهمها مدى تمثيل العينة لمجتمع الذين أدلوا فعلا بأصواتهم. كما أن طبيعة السباق الانتخابى نفسه لها أهميتها، فالقدرة على التنبؤ تكون أكثر صعوبة كلما زاد التقارب بين المتنافسين. وترتبط دقة التنبؤ فى المقام الأول بدرجة الاطمئنان التى يشعر بها الناخب حيال الإفصاح عن رأيه وهو ما يتحقق فى الديمقراطيات العريقة.
وأهمية مثل هذه الاستطلاعات لا تقتصر على كونها تتنبأ بنتائج الانتخابات قبل إعلانها وبالتالى تُشبع فضول المواطنين تجاه حدث هام، وإنما أيضا تسمح من خلال التعرف على الخصائص الاجتماعية لعينة الاستطلاع التعرف على التفاوتات فى الاتجاهات التصويتية للشرائح الاجتماعية وللمناطق الجغرافية المختلفة. وتعتبر هذه الاستطلاعات المصدر الوحيد لتحليل وتفسير نتائج الانتخابات والاتجاهات التصويتية للشرائح الاجتماعية المختلفة حسب العمر والنوع ومحل الإقامة والانتماء السياسى والفكرى والدينى والعرقى، نظرا لأن بيانات التصويت نفسها لا تتضمن بطبيعة الحال أى توصيف للناخب. كما أن تراكم بيانات استطلاعات ما بعد التصويت يعتبر بمثابة ثروة معرفية عن التحولات التى قد تحدث فى المجتمع على مر الزمن.
استطلاع ما بعد التصويت فى الاستفتاء على دستور 2014
قام المركز المصرى لبحوث الرأى العام «بصيرة» بتنفيذ أول استطلاع من نوعه فى مصر على عينة قوامها 10 آلاف ناخب بعد خروجهم مباشرة من اللجنة الانتخابية. وتوزعت المقابلات على 162 لجنة انتخابية غطت كل محافظات الجمهورية باستثناء المحافظات الحدودية وذلك لاعتبارات عملية. وضم فريق جمع البيانات مئات من الباحثين الذين قاموا بعمل شاق طوال يومى الاستفتاء فى ظروف لا تخلو من توتر يعكس المناخ العام التى تعيشه مصر. وعلى الرغم من أن هذا الاستطلاع تم بموافقة اللجنة العليا للانتخابات، وعلى الرغم من أن كل باحث كان لديه صورة من خطاب الموافقة فإن الأمر لم يخلُ من احتجاز عدد من الباحثين فى أقسام الشرطة نظرا للتشكك فى المهمة، التى يقومون بها.
وقد تم تقدير نسبة الموافقة على الدستور من واقع بيانات العينة بـ 98.8 %، وتفسير إرتفاع هذه النسبة مرجعه على الأرجح مقاطعة المعترضين على الدستور لعملية الاستفتاء من مؤيدى جماعة الإخوان المسلمين، وبالتالى فإن المصوتين هم عموم الشعب المصرى الذين رأوا فى الموافقة على الدستور الأمل الوحيد لخروج الدولة المصرية من حالة الفوضى والسبيل لاستعادة الأمن والاستقرار. وعلى الأرجح فإن نسبة الرفض الضئيلة تمثل حجم المعارضة الإيجابية وهم المعترضون على بعض نصوص الدستور وقرروا المشاركة ولم يركنوا إلى المقاطعة. وتجدر الإشارة إلى أن هذه النتائج تم إعلانها فى الساعة 9:40 مساء يوم الأربعاء 14 يناير (اليوم الثانى للاستفتاء) أى بعد 40 دقيقة فقط من إغلاق أبواب اللجان. وقد تم إعلان النتائج حصريا عبر قناة mbc مصر، والتى قامت بتمويل هذا الاستطلاع. وتم إعلان هذه النتائج للجمهور العام دون أن يتم إرسالها إلى أى جهة حكومية ترسيخا لحق المواطن فى أن يكون أول من يعرف. وقد أعلنت اللجنة العليا للانتخابات النتائج الرسمية مساء يوم السبت الموافق 18 يناير وبلغت نسبة الموافقة على الدستور وفقا للبيانات الرسمية 98.1% بفارق 0.7% فقط عن نتائج استطلاع ما بعد التصويت، والذى تم إعلانه بعد 40 دقيقة فقط من غلق أبواب اللجان الانتخابية، وهى نتيجة مشجعة لتجربة وليدة تكتنفها تحديات عديدة منهجية وعملية.
وكما سبق أن أشرنا فإن القيمة المضافة لاستطلاعات ما بعد التصويت تتجاوز التنبؤ المبكر بالنتائج. فالتحليل المتعمق للبيانات يسمح بتحليل الخريطة السياسية للمجتمع المصرى، كما تُفسح المجال للرد على تساؤلات تظهر دائما بعد أى انتخابات أو استفتاءات مثل مدى مشاركة فصيل سياسى أو فئة اجتماعية معينة أو التفاوت فى اتجاهات التصويت فيما بينها. وعلى سبيل المثال، فإن تساؤلات حول مشاركة الشباب وحول مشاركة المرأة وحول مشاركة السلفيين أثيرت بعد الاستفتاء. وتبارى المحللون السياسيون فى تقديم إجابات لا تستند بالضرورة إلى قرائن أو معلومات.
وتلعب نتائج استطلاعات ما بعد التصويت دورا مهما فى تقديم إجابات موضوعية لمثل هذه التساؤلات. وعلى سبيل المثال، فإن مشاركة الشباب يمكن تقييمها فى ضوء مقارنة التوزيع العمرى لمن لهم حق التصويت بالتوزيع العمرى للمشاركين فعليا فى الاستفتاء. والتوزيع العمرى لمن لهم حق التصويت يتوافر من خلال قاعدة بيانات الناخبين التى توفرها اللجنة العليا للانتخابات على موقعها الإلكترونى، أما التوزيع العمرى للمشاركين فعليا فى الاستفتاء فلا يتوافر إلا من خلال استطلاعات ما بعد التصويت. وتشير قاعدة بيانات الناخبين إلى أن نسبة الشباب فى الفئة العمرية 18 إلى 30 سنة تصل إلى 37% من جملة الناخبين. وفى المقابل فإن البيانات التى قام بجمعها المركز المصرى لبحوث الرأى العام «بصيرة» تشير إلى أن الشباب لم تتجاوز نسبتهم 24% من إجمالى المشاركين فى الاستفتاء. وهو ما يُثبت أن معدل مشاركة الشباب فى الاستفتاء الأخير كانت أقل من مشاركة المواطنين من الأعمار الأكبر. ولكن بالطبع فى غياب استطلاعات مماثلة عن استفتاءات أو انتخابات سابقة فإن التحليل يظل غير مكتمل.
وفى النهاية، أتمنى أن تصبح استطلاعات ما بعد التصويت جزءا من العملية الانتخابية لتجسر الفجوات المعرفية حول الخريطة السياسية فى المجتمع المصرى التى تتسم بديناميكية لا يجوز قياسها بناء على الانطباعات الشخصية التى لا تسلم من الأهواء. وتحية تقدير للجنة العليا للانتخابات على الشفافية التى اتسم به عملها وعلى إتاحة المعلومات التى نتمنى أن تصبح منهاج عمل يستمر فى أى انتخابات قادمة.
الشروق