لا أظن أيا منا يختلف على أن صعيد مصر يواجه العديد من التحديات التى تقف عقبة دون حدوث تنمية على أرضه ودون حدوث تحسن فى نوعية حياة أهله. صحيح أن هذه التحديات تواجه مصر كلها ولكن الوضع النسبى فى صعيد مصر شديد السوء وهو ما تؤكده الهوة بين الوجه البحرى والوجه القبلى فى كثير من المؤشرات التنموية. لاشك أن عوامل الجغرافيا لم تكن فى صالح الصعيد لبعده عن سواحل البحرين الأبيض والأحمر، ولتركز المساحة المعمورة فى شريط ضيق على جانبى النهر مما يجعل التنقل داخل محافظاته أكثر صعوبة وأعلى تكلفة. وهو ما جعله فى موقف تنافسى أسوأ فى تحقيق نمو اقتصادى يعتمد على الداخل أو الخارج. كما جعل بعده عن العاصمة ــ والتى لا نسميها القاهرة وإنما نسميها مصر وهى تسمية لا تخلو من دلالة تعكس تجذر مركزية التفكير ــ بمعزل عن فرص النمو الاقتصادى وعن إمكانات التعليم والعلاج والثقافة والخدمات التى تحظى بها العاصمة، ويستفيد منها سكان الوجه البحرى بدرجة أكبر من سكان الوجه القبلى، لاسيما الصعيد «الجوانى».
منذ نحو أسبوعين فوجئت بمؤتمر يعقد فى القاهرة تحت عنوان تنمية الصعيد. وأقول فوجئت لعدة أسباب أولها أن المؤتمرات التى تعقد فى مصر يهيمن عليها حديث السياسة فى فترة مخاض يعيشها الوطن، وثانيها أن الحديث عن الصعيد لم يقترن فى الآونة الأخيرة بكلمة تنمية وإنما ارتبط بكلمات سلبية. والمداخل الإيجابية فى تناول الشأن العام هى أيضا من الاستثناءات التى يشهدها المجال العام فى مصر.
ويتناول المؤتمر نتائج مشروع جديد مخصص لرفع معدلات التشغيل فى الصعيد من خلال مشروعات صغيرة تهدف إلى التمكين الاقتصادى والاجتماعى ومن بينها إحياء حرف تقليدية تؤسس لصناعات تدر دخلا على الأسر دون انتظار وظيفة حكومية.
وقد ازدادت دهشتى عند حضورى هذا المؤتمر لعدة أسباب:
لم يُضع المؤتمر وقت الحضور فى الحديث عن ينبغيات لا تتحقق ولم يركن إلى السيناريو المعتاد ذى الأضلاع الثلاثة: جلد الذات ــ توثيق الإخفاقات ــ توجيه الاتهامات، والذى يُفضى فى كل الأحوال إلى إشاعة مزيد من الإحباط والانهزامية. وفى نفس الوقت لم يتناول الحديث فى المؤتمر ما سيقوم به الفريق المسئول عن التنفيذ ولم يُقدم خططا لما سيقوم به فى المستقبل وإنما ــ وبدلا عن ذلك ــ قدم كشف حساب لإنجازات حقيقية تمت على أرض الواقع خلال السنة الماضية دون صخب لتثبت أن هناك فى هذا الوطن من يقدم طحين بلا ضجيج فى زمن لم يشهد سوى ضجيج بلا طحين.
شارك فى أعمال المؤتمر نائب رئيس الوزراء (الدكتور زياد بهاء الدين) وأربعة وزراء (المالية ــ التجارة والصناعة ــ التخطيط ــ التنمية المحلية) علما بأن المؤتمر عُقد فى صباح يوم من أيام عطلة نهاية الأسبوع والتى سبقها أسبوع لم يخل من منغصات العنف والتى لا تتوانى عن إشعال الوطن لننشغل عن بناء المستقبل بإطفاء الحرائق. كما شارك فى المؤتمر محافظ قنا والذى بدا مساندا ومشجعا لجهود منظمات المجتمع المدنى وأعطى انطباعا مخالفا لما يعطيه مسئولون آخرون يرون فى مؤسسات المجتمع المدنى عبئًا يتحملونه على مضض.
كانت مشاركة المجتمع المدنى ــ والتى لا تقل أهمية عن مشاركة المسئولين ــ تتجاوز التمثيل الشكلى الذى نراه فى كثير من المؤتمرات بهدف استكمال الصورة، ولكن كان المجتمع المدنى الممثل فى المؤتمر هو المسئول عن جمعيات صغيرة تعمل فى المشروع والذى يتم تطبيقه على أرض قنا فى أقاصى الصعيد. لم يكن ممثلى المجتمع المدنى من نجوم الفضائيات ولا من المسئولين عن إدارة العمل التطوعى عن بعد ولكن من العاملين على أرض قنا الذين حققوا نجاحات وتغلبوا على صعاب. بعض هؤلاء المشاركين لم يزر فى حياته القاهرة، وقد وجدت فى عفوية الحديث وصدق المشاعر وتلقائية تصوير الواقع ما أعطانى إحساسا بالثقة فى إمكانية النجاح التى أصبحت فى هذه الأيام مثل العنقاء والخل الوفى.
أظهر المؤتمر أن هناك مؤسسات مصرية أنشأها رجال أعمال مصريون تقوم بأعمال تنموية لا تهدف من ورائها سوى خدمة وطن وجدت لزاما عليها أن ترد له الجميل. وقد لفتنى أن مؤسسة ساويرس كانت أحد الممولين لهذا المشروع والذى بدأ العمل فيه منذ أكثر من سنة. والرسالة الواضحة هو أن أسرة ساويرس رغم أنها كانت فى صدام مع السلطة خلال العام الماضى ولكنها أثبتت أن الالتزام بخدمة الوطن هو خيار استراتيجى وأن مصر ليست شقة مفروشة يمكن لمن يتولى إدارتها أن يطرد منها الساكن الذى لا يروق له.
المؤتمر بكل ما يُرسله من رسائل إيجابية لم يحظى بتغطية إعلامية تُذكر ولا أقول تغطية إعلامية مناسبة، ومن الواضح أن اهتمام الإعلام بتغطية جهود هدم الوطن يفوق بكثير اهتمامه بتغطية جهود بنائه.
لم يتحدث المؤتمر عن الصعيد ولكن تحدث الصعيد إلى المؤتمر.
ويمكن القول إن المؤتمر لم يتحدث عن الصعيد ولكن الصعيد هو الذى تحدث للمؤتمر.
يتبقى أن نذكر أن مساندة هذا المشروع والذى يطلق عليه أسم « نداء» جاءت عبر برنامج الأمم المتحدة الإنمائى والذى ساهم فى جهود التنمية فى مصر بالعديد من البرامج والمشروعات الناجحة المشروع. وتُشرف عليه الدكتورة هبة حندوسة والتى تُمضى معظم وقتها فى قنا، تُضيف بفكرها وخبراتها وشغفها بالعمل ليس فقط مشروعا يمكن أن يغير حياة أهل المحافظة ولكنها تُعطى مثلا يمكن أن يحتذى به آخرون: وهو أن السبيل لبناء المستقبل «قليل من الضجيج وكثير من الطحين».
أتمنى أن يكون لدينا مشروعات شبيهة بهذا المشروع فى كل محافظة من محافظات مصر، ربما تختلف من محافظة إلى أخرى حسب طبيعة المحافظة ومزاياها النسبية.
الشروق