تستثمر الأسر المصرية فى تعليم أبنائها بشكل لافت للنظر. ولا يُستثنى من ذلك الأسر الفقيرة التى تقتطع من قوتها وتُضحى باحتياجاتها الضرورية من أجل حصول أبنائها على شهادة تعليمية يأملوا أن تنفتح من خلالها فرص لحراك مجتمعى يجعل حياة الأبناء أفضل من حياة آبائهم.
وتشير الدراسات التى تحاول تقدير إنفاق الأسرة المصرية على التعليم إلى أن الإنفاق السنوى على الدروس الخصوصية لا يقل عن 7 مليارات جنيه وبعض التقديرات تشير إلى أن هذا الرقم يتجاوز 10 مليارات جنيه سنويا. وأصبحت الدروس الخصوصية تجارة رائجة، لدرجة أن بعض المدرسين يقومون بالإعلان عن خدمة الدروس الخصوصية بالكتابة على الحوائط بشكل مبتذل دون خجل أو خوف من كتابة أسمائهم على الجدران وتحديد المواد التى يُدرسونها. وعلى الرغم من العبء الذى تتحمله الأسرة بصبر وجلد، نجد فى المقابل ترديا فى مستوى التعليم وضعفا فى مخرجاته. كما أن المؤشرات الدولية التى تصنف جودة التعليم فى مصر فى مرتبة متدنية حتى بالمقارنة بدول نامية ظروفها الاقتصادية وإمكاناتها البشرية تقل عن مصر. وتطالعنا كثير من الدراسات بنتائج صادمة تشير إلى أن نسبا كبيرة من الأجيال الجديدة لم يسبق لها الالتحاق بالمدارس أو أنها التحقت إلا أن بقاءها فى المدارس لعدة سنوات لم يفد فى إنقاذها من براثن الأمية.
وعلى الرغم من التحديات الحالية التى تواجه منظومة التعليم فى مصر فإن التحديات المتوقعة ستُزيد ــ بكل أسف ــ الطين بلة. وتتمثل هذه التحديات فى موجة من الزيادة السكانية التى ستضع ضغطاً غير مسبوق على منظومة التعليم لتزيدها إنهاكاً. ولتوضيح الأمر فإن عدد المواليد السنوى خلال الفترة من عام 1995 الى 2005 كان يتراوح بين مليون و600 ألف مولود ومليون و800 ألف مولود. وبالكاد كانت إمكانات مؤسسة التعليم الحكومى تتيح لهذا العدد الالتحاق بالمدارس، مع بقائها عاجزة فى معظم أنحاء الجمهورية عن تقديم الحد الأدنى المقبول لخدمة تعليمية تكسب الطالب المعارف والمهارات والسلوكيات التى يمكن أن تجعل منه مواطنا منتجا.
إلا أن الزيادة التى شهدتها مصر مؤخراً ربما تجعل مستوى جودة التعليم الحالى هو ترف لن نقدر عليه فى المستقبل. وسبب هذه النظرة التى يغلب عليها التشاؤم هو أن عدد المواليد خلال الفترة 2006 الى 2012 قد زاد بمعدل غير مسبوق ليتعدى حاجز الـ 2 مليون لأول مرة فى تاريخ مصر عام 2008 وليواصل الارتفاع ليكسر حاجز الـ 2 مليون ونصف المليون ويصل إلى 2.6 مليون مولود عام 2012. أى أنه فى 6 سنوات فقط ارتفع عدد المواليد بـ40%. ويعنى ذلك أن زيادة مماثلة يجب أن تطرأ على الطاقة الاستيعابية للمدارس المصرية التى تضيق بمن فيها وتئن من قلة الموارد المتاحة. وعدد الفصول التابعة لوزارة التربية والتعليم وصل فى عام 2011/2012 إلى 224 ألف فصل. وبحسبة بسيطة وحتى نستوعب المواليد الجدد فإن الدولة بحاجة لبناء 91 ألف فصل جديد فى المرحلة الابتدائية لتحافظ على كثافة الفصول الحالية علما بأن كثافة الفصل فى المرحلة الابتدائية تتجاوز 43 تلميذا. وهذا الرقم هو متوسط عام على مستوى الجمهورية وترتفع كثافة الفصل بشكل لافت فى بعض المحافظات مثل محافظة الجيزة التى جاوزت الـ50 تلميذا فى الفصل.
وحتى نتصور حجم الموارد التى نحتاجها لإضافة هذه الفصول، وبافتراض أن تكلفة الفصل تصل إلى نصف مليون جنيه (بما فى ذلك ثمن الأرض وتجهيز الفصول ومرتب المعلم)، فإن الإستثمارات المطلوب توفيرها تبلغ نحو 45 مليار جنيه لمجرد الحفاظ على نفس معدل التزاحم الحالى فى الفصول والذى لا نرضى جميعا عنه. ويصبح ملف الارتقاء بجودة التعليم ملفا مؤجلا لحين إشعار آخر قد يطول انتظاره.
عندما يستمع البعض لمثل هذا الطرح يرد بأن المشكلة ليست فى الزيادة السكانية وإنما فى عدم الاستفادة من هذه الزيادة على الوجه الصحيح ويعيد الكرة مرة أخرى للحكومات ويصفها بأنها تجعل من الزيادة السكانية شماعة تعلق عليها فشلها. ويستدل هؤلاء بمثال دول شرق آسيا وجنوب شرق آسيا التى حققت معدلات نمو مرتفعة وحولت الزيادة السكانية إلى قوة اقتصادية. والدولة التى عادة ما يتم الإشارة إليها فى هذا الصدد هى الصين وهى أكبر دولة فى العالم من حيث عدد السكان. وفى واقع الأمر فإن هذا التحليل ينقصه الترتيب المنطقى للأحداث التى مرت بها هذه الدول وعلى وجه الخصوص الصين. فالصين بدأت منذ بداية الثمانينيات برنامجا قوميا شديد الانضباط لإيقاف الزيادة السكانية يلزم الأسرة الصينية بسياسة الطفل الواحد مع وضع بعض الاستثناءات للانتقال للطفل الثانى فى المناطق الريفية. وبرنامج ضبط وتيرة الإنجاب يتدخل بشكل سافر فى حرية الأسرة فى إنجاب العدد المرغوب من أجل إنقاذ المجتمع من الانتحار الجماعى. وهذا البرنامج ــ والذى لا يخلو بالضرورة من مثالب ــ هو الذى أدى بالصين إلى تخفيض نسبة الإعالة من على كاهل المشتغلين وبالتالى أدى إلى رفع معدلات الادخار، كما أدى أيضاً إلى توجيه جزء من الإنفاق الاجتماعى إلى استثمارات ساهمت فى خلق فرص عمل لمئات الملايين من الصينيين. والأهم من ذلك أن إنجاب عدد أقل من الأطفال سمح للصين برفع جودة التعليم وهو ما أدى فى خلال جيل واحد إلى تحول كبير فى إنتاجية الإنسان الصينى. وهذا التحول هو الذى جعل من الصين عملاقا اقتصاديا.
وحتى لا يكون كلامى مرسلاً فإن عدد سكان الصين يساوى 16 ضعفا من عدد سكان مصر، وفى عام 1980 كانت قيمة صادرات الصين 6 أضعاف قيمة صادرات مصر وفى عام 2010 أصبحت قيمة صادرات الصين 60 ضعف قيمة صادرات مصر، إلا أن التفاوت فى القدرة على التصدير ليس هو أهم مفارقة بين مصر والصين. والأهم من هذا التفوق الذى يعكس مستوى إنتاجية وإتقان أعلى هو التفوق فى عدد براءات الاختراع. فعدد براءات الاختراع خلال عام 2012 فى الصين كانت تساوى 400 ضعف عدد براءات الاختراع فى مصر. وهو ما يعنى أن الطفرة التعليمية لم تكن فى مجال الصناعة فقط ولكنها تفوقت فى المساحة ذات القيمة المضافة العالية والمتمثلة فى مجال اقتصاد المعرفة. فلم تعد الصين مصنع العالم وإنما أصبحت قاب قوسين فى أن تصبح عقل العالم. وهى مكانة لا تتحقق إلا من خلال استثمار فى رأس المال البشرى، وهو ما لم يكن من الممكن تحقيقه فى ظل إنجاب منفلت لا يأخذ فى الاعتبار موارد المجتمع الطبيعية ولا يفكر فى كيفية تحقيق طموحات أفراده فى حياة لائقة. فهل نقرأ تجربة النمور الأسيويين القراءة الصحيحة؟
الشروق