بمناسبة الاحتفال باليوم العالمى للإحصاء قد يكون من المهم طرح عدد من القضايا المرتبطة بالعمل الإحصائى بجوانبه المختلفة. ونتناول فى هذا المقام ثلاثة جوانب: إنتاج الإحصاءات، وإتاحة الإحصاءات، واستهلاك الإحصاءات.
المقصود بإنتاج الإحصاءات العمليات المنهجية والعملية المرتبطة بجمع وتجميع وتلخيص وتحليل البيانات. فى حين نقصد بإتاحة الإحصاءات كل ما من شأنه نشر هذه الإحصاءات سواء فى شكل ورقى أو إلكترونى من أجل التعريف بها. وأخيرا نقصد بكلمة استهلاك الإحصاءات أى استخدامها فى المجالات المختلفة لاسيما صياغة السياسات العامة وإدارة الدولة ومؤسساتها الحكومية وغير الحكومية.
ويشير تاريخ العمل الإحصائى إلى أن إنتاج الإحصاءات ظل لفترة طويلة أحد الأعمال السيادية للدول والممالك وكان يُعنى بالدرجة الأولى بقياس قوة الدولة ومواردها بمفرداتها التى تطورت عبر الزمن. ولعله من المفيد الإشارة إلى أن إنتاج الإحصاءات هو عملية شاقة تمر بمراحل عديدة، فتقدير معدل البطالة مثلا فى دولة ما يتطلب تحديد تعريف البطالة وصياغة الأسئلة التى ستوجه لأفراد المجتمع لمعرفة حالتهم العملية.
ولما كان جمع هذه البيانات عن كل فرد من أفراد المجتمع عملية شاقة وعالية التكلفة يتم اللجوء إلى أسلوب العينة. وهو ما يتطلب تحديد تصميم العينة، ثم اختيار الأفراد التى ستتشكل منهم هذه العينة، ثم تدريب الباحثين الذين سيتولون جمع البيانات، ثم تنظيم عمليات جمع البيانات الميدانية ومراجعة هذه البيانات وتجميعها من الميدان. ويلى ذلك إدخالها على الحاسوب وإجراء التحليلات الإحصائية لاستخراج النتائج وتطبيق إجراءات الجودة فى كل مرحلة من المراحل المشار إليها.
ودقة النتائج النهائية تعتمد على دقة تنفيذ كل خطوة من الخطوات المشار إليها وعلى مدى التزامها بالمنهجيات المستقرة عالميا والتى تهدف إلى الحد من أخطاء التحيز. ومع التسليم بصعوبة إنجاز هذه المراحل بمستوى عال من الدقة وما يتطلبه ذلك من توافر موارد بشرية على مستوى عال من المهنية، إلا أن الصعوبة الحقيقية تكمن فى الجوانب الثقافية المرتبطة بالمُدلى بالبيانات.
فكثير من الأفراد الذين يتم سؤالهم فى المسوح الميدانية يتعاملون بقدر عال من عدم الاكتراث أو يحاولون إخفاء الحقائق بدافع الحفاظ على الخصوصية ومنهم من يُفضل عدم الاستجابة بسبب عدم الثقة فى الباحثين الذين يطرحون الأسئلة. كما أن الكثيرين لا يرون ضرورة لإعطاء بيانات دقيقة، وكثيرا ما تكون الإجابات التقريبية ــ والتى تصدر عادة عن ذوى التعليم المتواضع ــ بعيدة عن الظواهر المراد قياسها.
ونشير إلى أن كثيرا من هذه الصعوبات يتم التغلب عليها من خلال: 1ــ بناء القدرات البشرية فى مجال جمع وتحليل البيانات وتنمية الخبرات فى مجالات العينات وصناعة المؤشرات وضمان جودة البيانات، 2ــ تطوير الثقافة القائمة لتأكيد أهمية الإدلاء بالبيانات بدقة، 3ــ استخدام منهجيات متطورة، 4ــ توظيف أفضل لتكنولوجيا المعلومات، 5ــ إيجاد البيئة التشريعية التى تحافظ على خصوصية البيانات التى يتم الإدلاء بها والتى تجرم استخدام البيانات الشخصية أو نشرها على نحو يضر بالمدلى بالبيانات ماديا أو معنويا.
وبعد أن تناولنا بإيجاز «صناعة» إنتاج الإحصاءات والصعوبات التى تواجهها من أجل الوصول إلى مستويات من الدقة تسمح لمتخذ القرار بتوظيفها للوصول إلى قرار صائب. نشير إلى مرحلة ما بعد إنتاج الإحصاءات، وهى مرحلة إتاحة الإحصاءات.
وإتاحة الإحصاءات تشمل كل ما من شأنه إعلام الجمهور العام أو الجمهور الخاص بهذه الإحصاءات بأية وسيلة كانت مقروءة أو مسموعة، ورقية أو إلكترونية. وقد تأخذ شكل جداول أو رسوم بيانية أو نصوص مكتوبة. وإتاحة الإحصاءات يجب أن تأخذ فى اعتبارها أن فلسفة العمل الإحصائى تستند إلى أن جمع البيانات يتم من أجل نشرها.
وينظر الإحصائى إلى البيانات نظرة المزارع إلى الفاكهة الطازجة، يحرص على إتاحتها للمستخدم دون تأخير غير مبرر كما يحرص المزارع على بيع سلعته قبل أن تنضب. والسعادة الحقيقية للإحصائى أن يرى سلعته فى متناول الآخرين يستنيرون بها فى إدراك ما خفى عنهم من حقائق ويتعرفون من خلالها على ما طرأ حولهم من تغيرات ويستخدمونها على نحو يفيد فى تقدم المجتمعات وزيادة رفاهيتها.
أما المرحلة الثالثة فهى مرحلة «استهلاك» أو استخدام هذه الإحصاءات وتوظيفها والتى يشارك فيها السياسيون والمسئولون التنفيذيون والإعلاميون والأكاديميون والمهتمون بالسياسات العامة.
ومع عدم التقليل من التحديات التى تواجه إنتاج الإحصاءات إلا أن السلبيات التى يتم رصدها عند استخدام الإحصاءات تشكل التحدى الأكبر. وفى كثير من الأحيان لا يكون القصور فى إنتاج الإحصاءات وفى دقتها وإنما فى تفسيرها وفى التناول الإعلامى لها. ويفتقد التفسير فى كثير من الأحيان إلى الموضوعية كما لا يخلو التناول الإعلامى من الانتقائية.
وكثير من الإحصاءات الجيدة تم إفسادها نتيجة اجتزاء الحقائق أو التعميم غير الدقيق أو نتيجة إسقاطها على واقع مختلف لا يتسق مع التعريفات المستخدمة فى إنتاجها.
وعلى الرغم من أن مهمة الإحصاءات هى القياس الموضوعى لظواهر لا يكون حجمها الحقيقى بالضرورة معلوما، فإن كثيرا من مستخدمى الإحصاءات يتلقونها بترحاب إذا ما كانت متوافقة مع توقعاتهم ومع إطارهم الفكرى ويُعرضون عنها إذا ما فاجأتهم بنتائج غير متوقعة أو غير متفقة مع قناعاتهم.
والافتقاد إلى الموضوعية يرجع فى معظم الأحيان إلى توجه عام للى أعناق الإحصاءات إما لتفصح عن أكثر مما تعنى أو لتصمت عن كثير مما تعنى. وهذا التحيز يكون فى كثير من الأحيان مقصودا وينطلق من مواقف مسبقة شخصية أو أيديولوجية وهو ما يؤدى إلى إضفاء ضبابية على الحوارات المجتمعية التى يُفترض أنها تعتمد على قياسات دقيقة للقضايا المثارة، مما يجعل هذه الحوارات قليلة الجدوى ولا تؤدى للوصول إلى حد أدنى من التوافق حول قضايا مهمة ذات صلة بالسياسات العامة.
أما التعامل الإعلامى مع الإحصاءات والمعلومات فينحاز وبشدة لكل ما هو مثير. وكثير من الإعلاميين يرحبون بالإحصاءات التى يمكن ترجمتها إلى مانشيت مثير. وفى سبيل إنتاج مانشيت ناجح يتم التغاضى عن حقائق مهمة.
والانتقائية فى استخدام الإحصاءات لا تقتصر على الإعلاميين ويشاركهم فيها أيضا السياسيون. ويهتم السياسيون بالإحصاءات إذا كانت تُساند مصالحهم السياسية فى تأكيد نجاحات تحسب لهم أو إخفاقات تنسب إلى منافسيهم. وتصل درجة الانتقائية إلى أقصاها عندما يتبنى أحد مستخدمى الإحصاءات بعض النتائج ويرفض بعضها الآخر حتى لو كانت صادرة عن نفس الجهة وتم إنتاجها بنفس المنهجية وجمعت بياناتها من نفس العينة.
ولمعلومة القارئ فإن هذه الانتقائية لا تقتصر على العمل السياسى فى الدول النامية وإنما تحدث أيضا فى دول العالم المتقدم. ولعلى أشير إلى مقولة وينستون تشرشل أحد أعظم رؤساء وزارات بريطانيا: «عندما أبحث عن إحصاءات عن وفيات الرضع، ما أريده هو دليل على أن عددا أقل من الأطفال توفوا خلال فترة رئاستى للحكومة، مقارنة بأى رئيس حكومة آخر».
وقد تبدو العبارة ساخرة ولكنها تعكس واقعا حيا فى أذهان كثير من السياسيين.
إذا اتفقنا على أن الإحصاءات والمعلومات هى الأساس الذى يمكن أن يبنى عليه المجتمع لأحدث تراكم معرفى تمهيدا للانتقال إلى توظيف هذه المعرفة على نحو يحقق الحكمة فى التعامل مع قضايا الحاضـــر والمستقـــــبل.
إلا أن طغيـان الإثــــــارة والانتقائيـــــة فى التعامل مع الإحصاءات والمعلومات يحرم المجتمع من هذا التراكم المعرفى. فكلما كانت الإثارة على حساب الإنارة يضيع جزء من الحقيقة، وكلما طغت الانتقائية على النظرة التكاملية للأمور يضيع ما تبقى من الحقيقة. وكلما تضاءلت مساحة الحقائق فى عقولنا يفقد مجتمعنا البوصلة ولا يكون النجاح فى حل مشكلاتنا إلا مصادفة يستبعد حدوثها.
الشروق