مؤسسة كونراد أيدنهاور هى منظمة سياسية ألمانية تحمل اسم مؤسسها المستشار الألمانى الذى يقترن اسمه بإعادة بناء الديمقراطية فى ألمانيا. وترتبط المؤسسة بحزب الاتحاد الديمقراطى المسيحى وهو الحزب الحاكم فى ألمانيا حاليا. وتتبنى المؤسسة رؤية لأوروبا الموحدة، كما تتبنى اقتصاد السوق الاجتماعى.
وبالإضافة لعملها داخل ألمانيا فإن المؤسسة لها مكاتب فى أكثر من 120 دولة وتغطى أنشطتها، حسبما تقول وثائقها، تعزيز الديمقراطية وسيادة القانون واقتصاد السوق الاجتماعى والحوار بين الثقافات والأديان وتهدف إلى جعل العولمة أكثر حساسية لمبادئ العدالة الاجتماعية ولإرساء دعائم اقتصاد كفؤ مستدام. وتتعامل المؤسسة فى تنفيذ أنشطتها مع المؤسسات الحكومية والأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدنى، والمجالس النيابية، والجامعات ومراكز البحوث، وجمعيات رجال الأعمال، ووسائل الإعلام.
وسبب حديثى عن مؤسسة كونراد أيدنهاور يأتى بمناسبة القضية الخاصة بمدى مشروعية عمل عدد من المؤسسات الأجنبية فى مصر والتى عرفت إعلاميا بقضية التمويل الأجنبى لمؤسسات المجتمع المدنى المصرية. وقد صدر الحكم فى القضية بالسجن على عدد من مديرى هذه المؤسسات والعاملين بها من جنسيات عديدة. والقضية لا تتعلق بمؤسسات ألمانية فقط وإنما تضم بالإضافة للمؤسسة الألمانية لمؤسسات أمريكية أخرى.
أما سبب تخصيصى للحديث عن مؤسسة كونراد أيدنهاور دون غيرها فمرجعه خبرات سابقة فى التعامل مع المؤسسة الألمانية بخلاف المؤسسات الأخرى التى شملتها القضية، والتى لم تتح لى فرصة التعاون معها. وقد حرصت أن تأتى شهادتى عما خبرته بنفسى حتى لا أعتمد على أنصاف الحقائق فى بناء تصورات بعيدة عن الموضوعية أو أحكام تتسم بالتعميم.
وترجع خبرتى فى التعاون مع مؤسسة كونراد أيدنهاور إلى فترة عملى فى مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار والتى امتدت لست سنوات تم خلالها تنفيذ عدد من المشروعات المشتركة التى أظنها كانت تصب فى المصلحة الوطنية وساهمت بشكل كبير فى بناء قدرات وطنية فى مجالات متعددة. وحتى أكون أكثر تحديدا فقد اشتمل التعاون بين الجهتين على مجالات مثل دور مراكز الفكر Think tanks فى الدول النامية والدراسات المستقبلية وإدارة الأزمات وبناء المؤشرات الاقتصادية.
واشتملت الأنشطة المنفذة على تمويل خبراء دوليين للمشاركة فى مؤتمرات أو ندوات أو لتدريب العاملين فى هذا المجال. وبالإضافة إلى ذلك فقد أنتج العمل المشترك تعاون مع مؤسسات ألمانية أخرى فى نفس المجالات السابقة. ولعل أهم ثمرات هذا التعاون الاتفاقية التى تمت بين مركز المعلومات ودعم القرار ومؤسسة إنفنت «INWENT» والتى تم بمقتضاها تنفيذ مشروع بناء للقدرات لشباب العاملين بالمركز تم من خلاله تقديم تدريب على مستوى عالمى لما يزيد على 120 من موظفى المركز فى مجالات المهارات الشخصية والمهنية.
وكان التقييم الذى يتم لهؤلاء الموظفين يشير إلى نقلة نوعية فى أدائهم. ولم يكن هذا البرنامج التدريبى قاصرا على شباب مركز المعلومات فقط بل شمل بعض القيادات الشابة فى وزارات أخرى منها وزارة التنمية الإدارية والتعاون الدولى وغيرها. ونتج عن ذلك برامج مشابهة تبنتها بعض الوزارات منها وزارة التعاون الدولى التى تنفذ حاليا هذا البرنامج لبناء قدرات العاملين بها.
وأقصد من هذه الإشارات عرض تقييم موضوعى لدور المؤسسة الألمانية ولا أقصد بذلك التعقيب على أحكام القضاء، ولكن لى تعليق لا يتصل بأحكام القضاء وإنما بما قبل وصول الموضوع لساحة القضاء. وأظن أن أحد الأسباب التى خلقت هذه المواقف سببه أن لدينا نصوصا تنظم عمل المؤسسات الدولية ولكن لا يتم تطبيقها. بمعنى أن مثل هذه المؤسسات عندما تتقدم بالتصاريح التى تسمح لها بالعمل وفقا للقانون فإنها لا تتلقى ردا من الجهة الإدارية المنوط بها الأمر.
وعندما يتم متابعة الأمر وربما ممارسة الضغوط السياسية تبلغ الجهة الإدارية الموافقة على العمل شفويا دون إصدار موافقات رسمية. وتعمل المؤسسة تحت هذا الغطاء الفضفاض ربما لعدة سنوات، وهو حل ترى فيه الجهة الإدارية أنه يجنبها حرج عدم الموافقة دون أن يحرمها القدرة على تحجيم عمل هذه المؤسسات إذا لزم الأمر. بمعنى آخر، فإن الجهة الإدارية تترك الباب مواربا لتغلقه فجأة إذا ما لزم الأمر.
وعلى المستوى القانونى تظل هذه المؤسسات غير ملتزمة بالقانون، ويتم التغاضى عن ممارستها لعملها ربما لسنوات طويلة يعتاد فيها العاملون بها على هذا الأمر باعتباره منهجا تنتهجه الدولة المضيفة. وفجوة التوقعات بين الجهة الإدارية الوطنية المعنية والمؤسسات الدولية تخلق مشكلات سياسية ودبلوماسية تدفع الدولة المصرية بسببها ثمنا باهظا. وقد أدى صدور هذه الأحكام إلى رد فعل دولى سلبى لا يمكن تجاهله. ويحتاج المجتمع المصرى أن يفكر فى شكل العلاقة بين مصر وهذه المؤسسات وصياغة هذه العلاقة يجب أن تأخذ فى الاعتبار ما يلى:
● هذه المؤسسات تمارس دورها فى معظم دول العالم ولا شك أن هذه الدول لديها من الوسائل التى تحافظ بها على أمنها القومى ولا تلجأ إلى مقاطعة هذه المؤسسات.
● مصر بطبيعة موقعها الجغرافى ودورها الإقليمى لا يمكن أن تنعزل عن العالم وأن مثل هذه العزلة ليست فى مصلحتها.
● هذه المؤسسات لها تأثير كبير على تشكيل الصورة الذهنية للدول وهذه الصورة تؤثر على التعاون الاقتصادى وعلى تدفق الاستثمارات.
● هناك مساحات للتعاون مع المؤسسات الدولية مفيدة لمصر لا سيما فى مرحلة التحول الديمقراطى.
● حدوث خلاف فى وجهات النظر لا يجب أن يؤدى إلى طريق اللا رجعة ويكون دائما من المفيد الإبقاء على شعرة معاوية.
● إدارة العلاقات مع هذه المؤسسات يجب أن يتسم بالشفافية والوضوح ولا يكون للتوقعات المتبادلة سقف يتحرك لأعلى وأسفل حسب المتغيرات قصيرة الأجل.
● إن الأمن القومى المصرى مقدس ولا يخضع لحسابات المكسب والخسارة.
فهل يشهد المستقبل القريب صياغة جديدة لهذه العلاقة توازن بين متطلبات الأمن القومى والحفاظ على علاقات منفتحة مع العالم الخارجى؟
الشروق