تضاعف عدد سكان مصر ثلاث مرات خلال النصف الثانى من القرن العشرين من حوالى 20 مليون نسمة عام 1950 إلى نحو 60 مليون نسمة عام 2000. وتشير بيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء إلى أن عدد المواليد السنوى كسر حاجز الـ 2 مليون مولود عام 2008، وواصل الزيادة ليصل إلى نحو 2,4 مليون مؤخرا. وحتى يتصور القارئ مدى ضخامة هذا العدد، أشير إلى أن عدد مواليد انجلترا وفرنسا وإيطاليا مجتمعة يقل عن 2 مليون مولود سنويا، كما أن عدد مواليد المانيا واليابان وكوريا مجتمعة يقل عن عدد مواليد مصر.
وعلى الصعيد الإقليمى تعتبر كل من مصر وتركيا وإيران أكبر ثلاث دول فى منطقة الشرق الأوسط من حيث أعداد السكان، كما أن كل من الدول الثلاث لها ثقل سياسى واقتصادى يسمح لها بلعب دور إقليمى مؤثر. وكان عدد سكان الدول الثلاث متقارب فى نهاية الثمانينيات، وبحلول عام 2010 ونتيجة للزيادة السكانية المرتفعة التى شهدتها مصر فقد وصل الفارق بين عدد سكان مصر وعدد سكان إيران إلى 7.1 مليون نسمة ووصل الفارق بين مصر وتركيا إلى 8.3 مليون نسمة.
وتشير الإسقاطات السكانية للأمم المتحدة المبنية على سيناريو النمو المتوسط إلى اتساع الفارق بين مصر وإيران إلى أكثر من 22 مليون نسمة بحلول عام 2030 وإلى 38 مليون نسمة بحلول عام 2050. أما بالنسبة للفارق بين عدد سكان مصر وعدد سكان تركيا فمن المتوقع أن يزداد إلى 20 مليون نسمة عام 2030 ويواصل الزيادة ليصل إلى 32 مليون نسمة عام 2050. وهو ما يجعل من مصر أكبر سوق فى الشرق الأوسط.
يعتبر عدد السكان أحد محددات الأمن القومى للدولة. وغنى عن البيان أن نظريات الأمن القومى لا تعتمد فى قياس قوة الدولة على عدد السكان فحسب وإنما تعتمد فى قياس قوة الدولة على خصائص السكان الصحية والتعليمية وقدرتهم على الابتكار والإبداع وأيضا قدرتهم على ممارسة أنشطة اقتصادية تحقق قيمة مضافة مرتفعة تسمح بخلق طلب فعال على السلع والخدمات يؤدى إلى إنعاش الاقتصاد وإلى قيام صناعات جديدة، تسمح بدورها بتمويل برامج التنمية البشرية ومشاريع البحث العلمى. ومن ثم يسهم الارتقاء بنوعية البشر فى زيادة مردود أى زيادة عددية وتحولها إلى إضافة حقيقية للقوة الشاملة للدولة.
وفى السياق المصرى، يحتاج الأمر إلى تدارس العلاقة بين العدد الأمثل للسكان وتوزيعهم الجغرافى وتحقيق متطلبات الأمن القومى، وهنا تجدر الإشارة إلى أن حركة التاريخ تؤكد أن دور مصر يتجاوز حدودها. ومن ثم فإن المصالح العليا للدولة تتطلب دائما أن يكون لمصر جيش قوى يسمح لها بلعب دور أقليمى وأن تحقيق نهضة حقيقية يتطلب حدا أدنى من السكان الذين اضطلعوا عبر التاريخ بأدوار تنويرية شكلت القوة الناعمة للدولة المصرية والتى تجاوزت فى تأثيرها الحدود الجغرافية للدولة المصرية.
وغنى عن البيان أن عدد السكان هو شرط ضرورى فى معادلة الأمن القومى ولكنه غير كاف. فمما لاشك فيه أن الدولة إذا ما واجهت خطر الانقراض البيولوجى فإنها تصبح غير قادرة على الدفاع عن أمنها القومى ويصير مصيرها إلى الفناء. وتواجد أعداد كافية من السكان لتشكيل جيش هو شرط ضرورى لحماية الأمن القومى ولكنه غير كاف بالمعايير العصرية التى يلعب الكيف فيها دورا أكبر من الكم حيث تعتمد الحروب على التكنولوجيا المتقدمة أكثر مما تعتمد على اعداد الجيوش المقاتلة، ويحسم نتائجها الأسلحة الذكية التى تعتمد على التكنولوجيا.
بل إن عنصر العدد لم يكن شرطا كافيا لتحقيق الأمن القومى حتى قبل ظهور التكنولوجيا الحديثة. والتاريخ الإسلامى عامر بالأمثلة التى تؤكد أن معظم المعارك التى انتصر فيها المسلمون فى عصر الرسول «صلى الله عليه وسلم» لم يكونوا الأكثر عددا من عدوهم، بل كانوا أقل عددا وبفارق ضخم فى بعض الأحيان. وتكرر ذلك فى كثير من المعارك التى خاضها المسلمون الأوائل والتى لعب فيها الإعداد المعنوى والنفسى دورا يفوق فى أهميته العدد المطلق للجيوش المتحاربة. وجاءت الآية الكريمة لتؤكد ذلك فى قوله سبحانه وتعالى «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله».
وفى العصر الحديث، وفى نطاق العالم العربى لم تحسم الحروب بالعدد وإنما بالتكنولوجيا وبنوعية المقاتل. والصراع العربى الإسرائيلى يحمل كثير من القرائن، مع التسليم بأهمية المساعدات الخارجية التى تتلقاها إسرائيل. وعلى الرغم من أن التفوق العددى للعرب لم يحسم حربا إلا أن الآلة الإعلامية الإسرائيلية استخدمت فكرة التفوق العددى للعرب كذريعة للحصول على تعاطف الغرب لتضيف إلى تفوقها التكنولوجى نجاح إعلامى وظفته بطريقة انتقائية لتحقيق مصالحها.
وعلى جانب آخر، فإن الأمن القومى المصرى لا يمكن التفكير فيه بمعزل عن الاستقلال الاقتصادى والذى لا غنى عنه لتحقيق استقلال القرار السياسى. وتعانى مصر من عجز متزايد بين استهلاكها وإنتاجها من العديد من السلع الغذائية التى تجعل تحقيق الأمن الغذائى فى ظل زيادة سكانية مرتفعة بعيد المنال. وهنا يجب أن نشير إلى اعتماد مصر المتزايد على استيراد غذائها من الخارج ولاسيما القمح. ومع الأسف تستورد مصر أكثر من نصف احتياجاتها من القمح، وهو ما يجعل مصر أكبر مستورد للقمح فى العالم. والزيادة السكانية غير المحسوبة ستؤدى بنا إلى مزيد من الاعتماد على العالم الخارجى فى توفير الغذاء الذى هو أول الضروريات. وهذا الوضع فى حد ذاته لا يمثل مشكلة اقتصادية فحسب وإنما يشكل أيضا تحد هام إن لم يكن أهم التحديات التى تواجه الأمن القومى المصرى.
الشروق