العلاقة بين المعلومات والأمن القومى علاقة وثيقة، ولا يمكن الاختلاف على أن هناك معلومات لها صبغة السرية ومن ثم يجب تنظيم قواعد إنتاجها وحفظها وتداولها بما لا يمس الأمن القومى للدولة. وفى الوقت ذاته فإن الحق فى المعرفة هو حق من حقوق المواطنة وأثبتت كل الممارسات التى شهدتها مختلف دول العالم أن إتاحة المعلومات هى أحد سبل التمكين الإقتصادى والاجتماعى والسياسى والثقافى والعلمى للمواطن. وأن تحقيق المجتمع لطفرات تنموية ــ والذى يساند بلا شك استقرار الأمن القومى للدولة ــ لا يتحقق فى الظلام. ويضاف إلى ما سبق أن الشفافية فى تعامل الحكومات مع المواطن تشيع الثقة وتزيد الانتماء وتكرس المساءلة وتحد من الفساد وهذه النتائج التى تفرزها الشفافية تؤدى بدورها إلى الاستقرار الداخلى الذى هو بلا شك أحد الشروط الضرورية لتحقيق الأمن القومى. وهذه الأفكار ليست من قبيل الرومانسية وإنما ثبت تحققها من واقع تجارب دولية ماثلة أمام الجميع.
تتصل هذه المقدمة بالحوارات التى تتم حاليا سواء فى الغرف المغلقة أو على الملأ حول مسودة قانون حرية المعلومات، وهنا لا بد أن أوجه تحية لجميع من شاركوا فى هذه الحوارات حتى لو اختلفت معهم فى الرأى. لأننى أعتقد أن تباين وجهات النظر يرجع بالدرجة الأولى لاختلاف الخبرات والتوجهات والممارسات والخلفيات والمسئوليات، مع قناعتى الكاملة بأن الجميع يشترك فى الإخلاص للوطن وفى حبه كل على طريقته.
ومن الأهمية بمكان أن يتوافق المجتمع المصرى حول نقطة توازن بين ضرورات السرية وتكلفة عدم الإفصاح، وأقصد تكلفة عدم الإفصاح على الأمن القومى ذاته. وأزعم أن مربط الفرس فى التناول الخاطئ لمفهوم حرية المعلومات يكمن فى تصور أنها تؤدى حتما لإصابة الأمن القومى فى مقتل وأن المعرفة يجب أن تكون حسب الحاجة. كما يتجاهل الكثيرون القيمة المضافة التى يتم تفويتها على المجتمع بسبب وضع قيود مبالغ فيها وغير مبررة على جمع وتداول المعلومات.
أقترح ضرورة مراجعة هذا التناول الكلاسيكى وضرورة أن تتوافق علاقة المعلومات بالأمن القومى مع التغيرات فى تكنولوجيا نقل وتداول المعلومات والتحولات المتسارعة فى وسائل الاتصالات والتى أصبحت خارج السيطرة. وتجاهل ذلك يذكر أبناء جيلى بعبارة «ممنوع الاقتراب والتصويرى التى كانت تتصدر المنشآت الحيوية بما فى ذلك الكبارى على نيل القاهرة، وذلك حفاظا على هذه المنشآت. وبطبيعة الحال لا يوجد من يريد أن تتعرض منشآت بلاده للخطر، إلا أن منع الخطر بهذا الأسلوب يبدو من قبيل السذاجة المفرطة أو من قبيل تسديد الخانات. فإذا علمنا أن تصوير أى مبنى فى العالم أصبح الآن فى متناول أى طفل هاو يستخدم جوجل أيرث على الانترنت. وهو ما يعنى أن هذه التكنولوجيا التى اتيحت للجميع وبالمجان منذ عدة سنوات، كانت متاحة لأجهزة المخابرات فى السبعينيات أو الثمانينيات من القرن الماضى. وبالتالى فإننا مارسنا قوتنا فى منع الصور التذكارية للأصدقاء الذين يتجولون على شاطئ النيل خوفا على الأمن القومى، ونحن نعلم أننا لا نستطيع منع الأقمار الصناعية من التجول فى سمواتنا للكشف أسرار عسكرية أو استراتيجية.
وأشير فى سياق آخر إلى القيود التى توضع على البحث العلمى الاجتماعى وعلى المسوح الميدانية. والإجراءات المنظمة لجمع البيانات تنص على أن تتقدم الجهة القائمة على الدراسة بطلب للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء للحصول على الموافقة قبل الشروع فى جمع البيانات. وباعتبارى منتميا للعاملين فى حقل الإحصاء لا أعترض على هذا الإجراء التنظيمى الذى له مبررات فنية. أما الممارسة الفعلية، فتشير إلى واقع مختلف، فالجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء والذى شهد تطورا واضحا خلال السنوات السبع الماضية سواء من الناحية المهنية أو من ناحية التواصل مع المجتمع يُوافق عادة على قيام الجهات المصرية جمع البيانات. والاستثناء يكون فى حالة ما إذا كان موضوع الدراسة له صلة بالسياسة، فلا تتم الموافقة على الترخيص. ومن المفارقات الغريبة أن هناك مسوحا ميدانية كانت تتم الموافقة عليه قبل الثورة ولا تتم الموافقة عليه الآن، على الرغم من أن هناك حاجة ملحة للتعرف على التغيرات التى تطرأ على اتجاهات المواطن وعلى القيم التى تحكم ردود افعاله.
ولا أدرى إن كانت المؤسسات المسئولة عن الأمن القومى لديها القدرات العلمية التى تمكنها من إجراء مثل هذه الدراسات، أم أنها تُفضل عدم إجرائها أصلا بواسطة الباحثين المصريين حتى لا تتسرب لمؤسسات خارجية. وهنا لا أذيع سرا إذا قلت إن عدد الدراسات التى تمت عن مصر بواسطة مؤسسات بحثية غير مصرية مثل جالوب وبيو يزيد على 25 مسحا ميدانيا، فى موضوعات لا يتم الموافقة لباحثين مصريين على تناولها. وبالطبع فإن منع هذه المؤسسات من جمع بياناتها عن مصر غير ممكن عمليا وهو ما دلت عليه تجربة العامين الماضيين. أليس من الأفضل أن نثق فى الباحثين المصريين بل ونشجعهم على القيام بدراسات كلف غيابها الأمن القومى غاليا، لاسيما إذا كانت المراكز البحثية الأجنبية تقوم بها بحرية.
إلى متى نحافظ على الأمن القومى بمنطق «ممنوع الاقتراب والتصوير».
الشروق