قام مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار فى عام 2010 بإعداد دراسة متكاملة حول الفجوات المعلوماتية فى مصر، وقام بإعداد الدراسة شباب واعدون من العاملين بالمركز تحت قيادة الدكتورة ليلى نوار وبإشراف الأستاذة فاطمة الزهراء جيل. وقد استندت الدراسة إلى أراء العديد من الخبراء والباحثين، بالإضافة إلى العاملين فى حقل الإحصاء والمعلومات. وقد كانت أحد العناصر المهمة والتى أجمع عليها المشاركون فى الدراسة هى غياب منظومة تشريعية متكاملة تتناول المعلومات باعتبارها حقا للمواطن وتنظر إلى المعلومات باعتبارها وسيلة لتمكين المواطن سياسيا واقتصاديا وثقافيا.
وجدت أنه من المفيد أن أشير إلى هذه الدراسة فى هذه الفترة التى يدور حولها نقاش مجتمعى حول القانون الجديد لحرية تداول المعلومات. وأعتقد أن إصدار مصر لقانون محترم لتداول المعلومات هو شىء حتمى لا يجب التنازل عنه. وهو أحد الثمار التى يجب أن تسعى الحكومة لقطفها، لأن صدور قانون جيد بالمقاييس الدولية سيعيد رسم صورة ذهنية إيجابية نحتاج إليها بشدة على المستوى الدولى. وعلى المستوى العربى والذى تخلو الساحة فيه من قوانين عصرية للمعلومات، فإن لدى مصر فرصة ذهبية لتأكيد ريادتها التى تراجعت بسبب الوهن الذى أصاب مصر وجعلها تنكفئ على مشكلاتها ولا تعبأ بممارسة دورها التاريخى والتنويرى فى المنطقة التى تمثل لها بعدا استراتيجيا.
إلا أن التأثير الأهم لصدور قانون محترم للمعلومات هو تأثيره الإيجابى على رسم صورة جديدة للعلاقة بين المواطن والحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدنى. وهو أمر نحتاجه جميعا فى ظل العلاقة المَرضية التى تسود المجتمع المصرى والتى تتسم بالتشكك والتربص والتى لا تخلو من انتهازية سياسية تبعث على الغثيان. وقد استخدمت كلمة محترم لوصف القانون الذى اتمنى صدوره، لانه لو كانت النوايا تتجه إلى غير ذلك فأعتقد أن النظام الحاكم يكون قد ضيع فرصة ذهبية لتسجيل نقطة لصالحه سيكتبها له التاريخ وهو ما يحتاجه بشدة لاستعادة مصداقيته.
وعودة إلى الفجوات المعلوماتية فى مصر، فأرجو أن يتفق القارئ معى أن المعلومات تشكل الركيزة الأساسية فى التخطيط التنموى، حيث تُمكن المختصين من استقراء الواقع وعرض صورة حقيقية عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والبيئية. فضلا عما تخلقه الإحصاءات الجيدة الموثوق فيها من مناخ عام يتسم بالشفافية يسمح بالمساءلة المجتمعية المبنية على القرائن، بدلا عن المناخ العام الذى يتسم بالضبابية المعلوماتية والذى تُمارس فيه المسائلة بأسلوب انطباعى لا يخلو من تحيز. فالعلاقة بين المواطن والحكومة فى ظل غياب المعلومات وعدم دقتها تصبح تصيدا لأخطاء يتسم بالانتقائية وعدم الإنصاف فى بعض الأحيان من قبل المواطن، وعدم قدرة من قبل الحكومة عن الدفاع عن نفسها بصورة مقنعة أو تبرير أخطائها على نحو مقبول أو إقناع المواطن بإنجازاتها. وفى المقابل فإن المناخ المعلوماتى الصحى يتيح للمواطن التعرف على اخفاقات وانجازات الحكومات بشكل موضوعى وربما لا يحتاج أصلا لانتقاد الحكومة إذا وجد أن الإخفاقات حجمها محدود أو أن هناك ما يبررها ولن يتصيد للحكومة الأخطاء كما هى الحالة عند غياب المعلومات. وفى المقابل فإن توافر المعلومات سيمكن الحكومات من الدفاع عن نفسها وعن تفسير إخفاقاتها وجنى ثمار نجاحاتها.
والاعتقاد السائد بأن غياب المعلومات يريح الحكومات من المسائلة هو اعتقاد غير سليم ولا يكون بالقطع فى صالح الحكومات، لأن غياب المعلومات يزرع بذور الشك فى نفس المواطن ويدفعه دفعا لفقدان الثقة، والتى تتحول إلى شحنات غضب تتراكم عبر الزمن. وهو ثمن غالى لا تقدر على تحمله الحكومات فى مجتمعات خرج المواطن فيها من القمقم. إن الانتقال إلى معادلة يكون الكل فيها فائزا (win-win) بدلا من معادلة يكون الكل فيها خاسرا (loose-loose) ليس بالأمر المستحيل وحتى لو كان صعبا فإنه يستحق العناء.
حسب المصادر المعلنة فإن قانون إتاحة المعلومات سيرى النور قريبا. ونأمل أن يكون القانون الجديد بمثابة تحرير للقيود التى كبلت المواطن وحالت دون زرع الثقة المتبادلة بين شركاء الوطن. وألا يكون تقنينا لأوضاع خاطئة وشرعنة لممارسات حالت دون تمكين المواطن وعمقت من فجوة الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، وهو ما ندفع جميعا ثمنه اليوم.
وحتى ندرك أهمية صدور القانون بشكل صحيح وتطبيقه بشكل جدى أشير هنا إلى بعض الأمثلة لمعلومات لا ترى النور حاليا وستؤدى الممارسات الأمينة والصائبة ــ إذا ما حدثت ــ إلى توفيرها:
معلومات فى المجال الصحى مثل تسجيل قومى دقيق لأمراض مزمنة تسمح بإنتاج مؤشرات حول مستوى انتشار هذه الأمراض وتطوره عبر الزمن بما فى ذلك أمراض السرطان بأنواعها والفشل الكلوى وضغط الدم ومرض السكر وهى بيانات ستكون مفيدة جدا فى تحديد الأولويات فى الوقاية والعلاج.
معلومات فى مجال الأمن الغذائى، فعلى سبيل المثال لا توجد بيانات دقيقة عن الإنتاج السنوى لأهم سلعة استراتيجية فى مصر وهى القمح، والبيانات الدقيقة هى حول الكمية المستوردة بحكم تسجيلها فى الجمارك عند دخولها إلى البلاد، أما بيانات الإنتاج فهى بيانات تعتمد على فرضيات (لا ترقى لمستوى التقديرات العلمية أوشبه العلمية) حول المساحة المزروعة قمحا ومتوسط إنتاجية الفدان من القمح وهى بيانات لا يتم جمعها سنويا، وعلى الرغم من أن مصر هى أكبر مستورد للقمح وعلى الرغم من حديثنا الذى لا ينقطع عن الاكتفاء الذاتى من المحاصيل الاستراتيجية إلا أننا لا نملك بيانات دقيقة عن إنتاجنا من القمح.
بالإضافة إلى ما ذكرته من أمثلة لا يتسع المجال للتوسع فيها، فإن هناك قيودا شديدة تُفرض على جمع البيانات والقيام بالمسوح الميدانية حول مشكلات وظواهر اجتماعية خطيرة مرتبطة بالتغييرات فى قيم المواطن المصرى، وأمثلة على ذلك قياس ثقة المواطن فى مؤسسات الدولة ولا أقصد هنا الثقة فى الحكومة فقط وإنما الثقة فى مؤسسة القضاء وفى المؤسسة العسكرية وفى مؤسسة الشرطة وفى الإعلام وفى الأحزاب وفى الجمعيات الأهلية، والإجابات عن هذه الأسئلة ستسمح بفهم أفضل للتناقضات القائمة فى المجتمع المصرى وستفسح المجال لإدارة أفضل للأزمات التى تواجه الوطن.
وفى النهاية، لن أبكى على اللبن المسكوب وأقول إننا بافتقارنا لكثير من المعلومات الأساسية أضعنا فرصا ثمينة فى إدارة أفضل للمرحلة الانتقالية وفى إدارة أفضل لقضايا التنمية وكل ما أملكه أن أتمنى ألا نكرر أخطاء الماضى ونعيد إنتاجها فى ثوب جديد.
الشروق