قضية حرية تداول المعلومات يجب ألا يُنظر إليها باعتبارها ترفا فكريا فى فترة تتزايد فيها التحديات التى تواجه مصر وإنما يجب النظر إليها باعتبارها أحد عناصر حزمة من التوجهات الجديدة لبناء دولة حديثة. كما لا يجب أن ينظر إلى تطبيق حرية تداول المعلومات على أرض الواقع فقط باعتباره أحد الوسائل المهمة لتحقيق التحول الديمقراطى، ولكنه أيضا الآداة التى يمكن من خلال تطبيقها بجدية وأمانة هدم حاجز إنعدام الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة. وإذا كانت التجارب الدولية تشير إلى أن خلق بيئة جديدة لتداول المعلومات تفرض واقع يكون الكل فيه فائزا win-win إلا أن تحليل الظرف المصرى الحالى يؤكد أن المكسب الذى ستحققه الحكومة المصرية سيكون هائلا إذا ما أصدرت قانون عصرى لحرية تداول المعلومات وفعلت هذا القانون على أرض الواقع بشكل ملموس.
أرى بوضوح أن الحكومة التى ستنفذ هذا التحول سيكتب اسمها فى التاريخ باعتبارها هزمت أكبر تحدى يواجه البيروقراطية المصرية وأزالت أكبر عقبة تحول دون نجاح سياسات مكافحة الفساد وعبرت أكبر عائق أمام بناء منظومة للمتابعة والتقييم تكون أساسا للمساءلة التى لم يعرفها المصريون لأكثر من نص قرن.
وبالإضافة إلى ما سبق فإن صدور قانون عصرى لتداول المعلومات وتطبيقه بشكل ملموس على أرض الواقع سيُسهم فى كسر عزله الدولة والحكومة وسيمد جسور الثقة بينها وبين المواطن المصرى وعلى وجه الخصوص بينها وبين منظمات المجتمع المدنى والانتليجنسيا المصرية والإعلام المصرى وهى شرائح علاقتها بالنظام الحاكم يعتريها كثير من الجفوه ولا تخلو من التربص المتبادل. كما سيكتسب النظام الحاكم مصداقية هو فى أمس الحاجة إليها ناهيك عن تأثير ذلك على مناخ الاستثمار الذى يتعطش إلى أية إشارات إيجابية تروى ظمأه. ناهيك عن أن مناخ الشفافية سيكون للنظام الجديد بمثابة وقاية ضد فيروسات الفساد التى ستتسلل حتما لملء أى فراغ تم تطهيره من براثن فساد قديم.
وبالإضافة إلى ذلك سيحصن النظام الجديد نفسه ضد فيروسات الفساد التى ستتسلل حتما لملء أى فراغ تم تطهيره من براثن الفساد القديم.
ويرى البعض أن استحداث مناخ جديد يتم فيه تداول المعلومات بشفافية هو المستحيل بعينه فى مجتمع استقرت فيه قواعد ذهبية تحكم البيروقراطية الحكومية هى:
• إن إحتكار المعلومات مصدر للقوة.
• إن إتاحة المعلومات يجب ألا تكون إلا حسب الحاجة.
• إن زيادة حجم المعلومات المتاحة للمواطنين تستخدم ضد الحكومة.
وأن استبدال هذه القواعد لتصبح:
• إن تبادل المعلومات مصدر قوة للجميع.
• إن النفاذ للمعلومات هو حق للمواطن وإتاحتها هو واجب على الدولة.
• إن زيادة حجم المعلومات المتاحة للمواطنين تزيد الثقة فى الحكومة وتوثق نجاحاتها.
وهذا التحول فى ثقافة البيروقراطية المصرية هو أمر شديد الصعوبة لأنه يصطدم بمصالح مستقرة كما يتسق مع قيم مغروسة فى الشخصية المصرية. وعلى سبيل المثال، فإن الاستدعاء الانتقائى لمقولات من التراث مثل «الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها» يدفع البعض إلى عدم الإفصاح عن معلومات قد تثير جدلا حتى وإن كان مفيدا. ومقولة «اسأل عما لا يعنيك تلقى ما لا يرضيك» تدعو البعض إلى استهجان طلب المعلومات التى تعكس اهتماما بالشأن العام. وأحيانا يتم استدعاء الآية الكريمة «يأيها الذين أمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم» وتوظيفها فى غير سياقها المنزل لصرف من تسول له نفسه طلب معلومات قد تعكس سوء أداء فى البرامج والمشروعات الحكومية.
فهل هناك بادرة أمل لإحداث هذا التحول؟ البادرة الأولى التى تدعو إلى التفاؤل هى قيام وزارة العدل بإعداد مسودة لقانون تداول المعلومات يتم حاليا مناقشتها فى إطار حوار مجتمعى مع عدد من الخبراء والإعلاميين ومؤسسات المجتمع المدنى، وإن كنت لم أطلع على فحوى ما دار فى هذا الحوار ولم أشارك فى جلساته إلا أننى اطلعت على المسودة المطروحة على موقع الوزارة، وفيما يلى ملاحظتين أضعهما تحت تصرف القائمين على صياغة المسودة:
• تناول القانون مجالين رئيسيين: إفصاح المؤسسات الحكومية عن المعلومات وتداول الوثائق الرسمية. وبدون الدخول فى التفاصيل أعتقد أن التناول المتكامل للموضوع يستحق الإشادة ومع وجود بعض الملاحظات التفصيلية إلا أن القانون فى مجمله قفزة للأمام تستحق التحية وأتمنى ألا يطرأ عليه تعديلات تعود به للوراء.
• تحفظى الرئيسى على هذا القانون أنه لم يربط بين قضية إفصاح المؤسسات الحكومية عن المعلومات وقضية إنتاج المعلومات نفسها، وأقصد هنا جمع البيانات من خلال المسوح الميدانية والتى أرى أنها مكبلة بقيود تحد من انطلاق البحث العلمى الاجتماعى فى وقت نحن فى أمس الحاجة إلى جمع الكثير من البيانات يمكن أن يستخدمها العلماء فى مجال العلوم الاجتماعية فى فهم الشخصية المصرية وفى فهم كثير من الظواهر التى ربما تتغير ولا يتم رصدها أو تفسيرها.
وفى النهاية، فإن التحول إلى مناخ تنساب فيه المعلومات بسلاسة يتطلب تشريع جيد، وهو ما يبدو أنه ممكن فى ضوء العمل الذى تم مؤخرا فى وزارة العدل. إلا أن التدخل التشريعى يجب أن ينظر إليه على أنه شرط ضرورى ولكن غير كافٍ. ومربط الفرس حتى يتحول هذا القانون إلى واقع عملى أن تواكبه حزمة من السياسات والبرامج التى تتضمن تعديلات مؤسسية داخل الحكومة المصرية سواء على المستوى المركزى أو المحلى. كما يتطلب الأمر بناء القدرات الفنية للعاملين فى مجال إتاحة المعلومات والتوظيف المناسب لتكنولوجيا المعلومات وتعريف المواطن بحقه فى الحصول على المعلومات والارتقاء بنوعية البيانات التى يتم جمعها وسرعة إصدارها والحفاظ على انتظام دوريتها.
طريق الألف ميل يبدأ بخطوة ونأمل أن تتسارع خطى الحكومة فى هذا الطريق الذى ستكون هى أكبر الرابحين منه إذا ما أحسنت تنفيذه.
الشروق