المكان ميدان التحرير، الزمان يوم الإثنين، الذكرى الخامسة لبداية الثورة المصرية، لم أر شيئاً مثيراً للاهتمام فى الميدان سوى المطر وشاباً يرتدى «سويت شيرت» مكتوباً عليه باللغة الإنجليزية، بحروف ضخمة «كن هادئاً ودخن سيجارة الحشيش»، ويبدو أنه لا شىء يغضب المصريين أكثر من المطر حتى فى يناير، أكثر شهور السنة سقوطاً للأمطار بغزارة، ومع ذلك لم يغط المطر فى هذا اليوم سوى أقل من شبر من سطح أرض الميدان الذى انتظر المصريين، الذين لم يحضروا ربما غضباً من المطر!
وبعد ظهر هذا اليوم، فرق المطر المستمر فى السقوط بجميع أنحاء الميدان تجمعاً سلمياً بدأ الساعة الواحدة ظهراً مكوناً من حشد صغير، لكنه صاخب، تجمعوا فى زاوية بالميدان، لكن يبدو أن هؤلاء ليس من انتظرهم الميدان، إذ وقفوا يحتفلون بيوم الشرطة، ويهتفون لإظهار دعمهم للحكومة وللنظام.
ورغم المطر، استمر بعض هؤلاء فى معاندة المطر وظلوا ثابتين على الأرض رافضين أن يتركوا مكانهم، كان منهم رجل فى الستينيات من عمره يدعى محمد الفونس، سافر ٣ ساعات بالقطار من الواحات البحرية للقاهرة، لرفع لافتة عليها صورة الرئيس عبدالفتاح السيسى، وعبارة «الله معك»، ولم ينس «الفونس» أن يزين سرواله، إذ كتب على ساقه اليسرى بالحروف العربية الكبيرة كلمة «نعم»، فى حين كتب كلمة «السيسى» على الساق اليمنى، وعندما سألته عن رأيه فى ثورة ٢٥ يناير، أجابنى قائلا: «دى مية مية»، لكنه قال كذلك إنه «يحب حسنى مبارك»، الرئيس الأسبق، الذى كان هدف الثورة الأول، وأضاف: «كان رجلا طيبا، لكنه جعل الإخوان المسلمين جماعة قوية»، وأوضح «الفونس»: «هو أضعف الدولة، وهذا مهد الطريق لمحمد مرسى ليصبح رئيساً».
وبينما كنا نتحدث، ظهر شاب الـ«سويت شيرت»، وفى الخلفية صورة لأوراق الماريجوانا الخضراء، كان شاباً فى العشرينيات من عمره، وللحظة سألت نفسى إذا كانت الثورة قد انحرفت ناحية الأرض التى يقع بها منزلى فى ولاية كولورادو، لكن عندما سألت الشاب عما إذا كان يعرف معنى الكلام المكتوب على ملابسه، هز رأسه بما يعنى أنه لا يعرف، فترجمته له، وبعدها انفجر هو ورفيقه فى الضحك، ثم سلما علىّ قائلين: «هذا أفضل عيد شرطة على الإطلاق».
ورأتنى امرأة عجوز أثناء تدوينى بعض الملاحظات، وقدمت نفسها باسم «الحاجة زينب»، وقالت لى إنها جاءت إلى الميدان لأنها بحاجة إلى المساعدة: «زوجى مريض ولا يستطيع العمل، أنا لست متسولة، أنا لا أريد المال، أريد فقط أن يكون لى كشك صغير يمكن أن أبيع به بعض الأشياء مثل السكر والزيت»، ثم فتحت كيساً تحمله معها، وأخرجت منه تقريراً طبياً قاتماً من مستشفى محلى، يثبت إصابة زوجها بفشل كبدى، ومعها مقال بإحدى الصحف به صورة عنوانها: «حلم ترخيص كشك».
محادثات التحرير يمكن أن تكون مذهلة، وبنفس الطريقة فإنه من الصعب أن تربط بينها وبين الثورة التى بدأت فى عام ٢٠١١ أو حتى تفهمها، والغريب أنه لا يوجد نقص فى البيانات والتحليلات، فعلى سبيل المثال، أصدر معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط للتو تقريرا شاملاً يدين سياسات مصر السياسية والاقتصادية، لكن بعد ذلك، أجرى مركز «بصيرة»، وهى منظمة مستقلة تعرف أيضاً باسم المركز المصرى لبحوث الرأى العام، مسحاً بمناسبة الذكرى الخامسة للثورة، وكجزء من الدراسة، سأل «بصيرة» العينة: «هل تعتقد أن هذا البلد أصبح أفضل أم أسوأ مما كان عليه قبل ٢٠١١؟ ألم يحدث تغيير؟»، وظهرت إجابات ١٩% من المستطلعين، بأن الوضع «أسوأ»، وما يقرب من ٧٠% كانت رؤيتهم إيجابية، و٣٩% يرون أن وضع البلد أصبح أفضل، بينما قال ٢٩% أنه «أفضل بكثير»، فى الوقت الذى تحدثت فيه صحيفة «نيويورك تايمز» وغيرها من المطبوعات عن الحملة الشرسة ضد الصحفيين والمنظمات الثقافية استعداداً لذكرى ثورة يناير.
فما هو الوضع الحقيقى؟ أحيانا أشعر أن أهم شىء تعلمته عن مصر يمكن تلخيصه على النحو التالى: «ليس من الضرورى أن يكون له معنى»، أو «ربما من الأفضل أن نقول إن العديد من الأشياء المختلفة والمتناقضة على ما يبدو يمكن أن تكون صحيحة فى نفس الوقت»، فمن الممكن أن الاقتصاد والحياة السياسية فى مصر قد تضررا بشدة فى مرحلة ما بعد التحرير، إلا أن الغالبية العظمى من المواطنين لاتزال، لأى سبب من الأسباب، تستجيب لدراسة حول ما «بعد الثورة»، ومن الممكن للرجل أن يسافر ٣ ساعات للاحتفال بالذكرى الخامسة للثورة، وفى الوقت نفسه، يتكلم باعتزاز عن الزعيم الذى أطيح به من قبل هذه الحركة، حتى أنه من الممكن لشخص أن يتكلم جيدا عن كل من السيسى ومرسى، ولقد خضت كثيراً من هذه المحادثات فى عدد من المناسبات، وكان آخرها فى الليلة التى سبقت الذكرى السنوية، بينما كنت أشترى البرتقال.
ومن الممكن أيضا لقوات الأمن المصرية أن تشن حملة أمنية ثقيلة الوطأة كنوع من الاستعدادات للذكرى السنوية للثورة، ولا يعنى هذا الكثير لغالبية المصريين، وفى الدولة الاستبدادية، يمكن أن يكون هناك قمع بدون معارضة، لأن العلاقة النشطة بين هذه العناصر ليست منطقية أو سببية بالضرورة، ومن المدهش أن حالة الشعور بالأزمة أو الغضب واضحة هذه الأيام فى مصر، وكيف أن الطاقة الموجهة تجاه الحياة السياسية ضعيفة.
ولم يعد يتذكر معظم الناس فى مصر الأيام والأحداث العظيمة لبداية الربيع العربى، لأنهم دائماً ما يقارنون بين وضعهم الحالى والنصف الأول من عام ٢٠١٣، عندما كان مرسى فى السلطة، وبدا أن مصر أقرب إلى الانهيار، مع النقص المتكرر فى الكهرباء والبنزين والسلع الأساسية الأخرى، وبالمقارنة، فالحوادث الإرهابية المتفرقة خلال العامين الماضيين تبدو أقل تهديداً بالنسبة للمواطن العادى، خاصة أن تلك الهجمات عادة ما تكون مركزة فى سيناء، وفى هذا المناخ، حتى عمل الشرطة، يمكن أن تشعر فيه بالتفاوت بشكل مدهش، فمثلاً خلال العام الماضى خرجت فى أكثر من ١٢ رحلة طويلة إلى جنوب مصر، بدون أن يكون هناك اتصال بشكل ملحوظ مع قوات الأمن، وفى أكتوبر، سافرت بمفردى فى رحلة ١٠٠٠ ميل لمدة ١٠ أيام، وأنا صحفى أجنبى أسافر بمفردى فى سيارة خاصة دون سؤال واحد من قبل أى ضابط أمن.
يوم الإثنين كانت الشرطة تملأ التحرير، لكن لم يكن لديهم أى عمل يقومون به، إذ لم يحضر المصريون، وفى طريق العودة إلى سيارتى، شاهدت مجموعة من ٤ ضباط يرتدون الزى الرسمى معهم كلب شرطة يجلسون فى مرآب للسيارات، يختبئون من المطر، كانت الشوارع المغطاة بالمطر فارغة من الناس، وربما كان هذا هو الشىء الأكثر تميزاً فى ذكرى الثورة، إننى أخيراً رأيت المطر فى مصر، بعد أن كدت أنسى آخر مرة سمعت فيها صوت مساحات الزجاج الأمامى فى السيارة.
المصرى اليوم