لأن هناك فى القانون والسياسة والعلاقات الدولية بل والحياة نفسها ما يُعرف بالأمر الواقع فقد أصبح نقل السيادة على جزيرتى صنافير وتيران أمرا واقعا بموافقة مجلس النواب على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية. هكذا تُطوى أوراقٌ وتجفّ صحفٌ وتنام عيونٌ مجهدة وتفقد تساؤلات قانونية عديدة لحظتها وجدواها. الآن ثمة حديث آخر تفرضه أسئلة اليوم التالى. أسئلة ستلاحقنا حتما بدخول الاتفاقية حيّز التنفيذ، وستبقى ــ شئنا أم أبينا ــ مطروحة على مصر والسعودية معا.
أول الأسئلة يتعلق باستيضاح أسباب الخلاف حول تبعية الجزيرتين، وهو خلاف ذو بعدين متداخلين أولهما واقعى والثانى قانونى رأى فيهما كل فريق دلالة مغايرة لما رآه الآخر مع أن وجه الحقيقة فيهما ظاهر وجليّ! البعد الواقعى أنه حينما برزت أهمية الجزيرتين فى أربعينيات القرن الماضى لم تكن المملكة الشقيقة براغبة أو بقادرة لأكثر من سبب على الوجود العسكرى أو غير العسكرى فيهما لا سيّما مع ظهور إسرائيل على المسرح الإقليمى فى عام 1948 فتحملت مصر العبء كله، ولم تمانع السعودية فى ذلك. بدا الأمر يشبه بالمفهوم القانونى «حالة التخلى». لكن يقول السعوديون ومعهم المصريون المؤيدون للتنازل إن السعودية لم تعارض وجود مصر على الجزر فى أربعينيات القرن الماضى انطلاقا من تفهمها لظروف مصر آنذاك وتقديرها لمتطلبات مواجهتها لإسرائيل. هذا الموقف السعودى بذاته جدير بالتسجيل لكنه من ناحية أولى يصطدم بسؤال ما إذا كانت الخطابات والتصريحات تعتبر اتفاقية دولية بالمفهوم القانونى الدقيق. وهو من ناحية ثانية لا ينفى حقيقة أن مصر قد مارست على مدى سبعة عقود كل مظاهر السيادة على الجزيرتين ولم يكن لدولة غيرها طوال الفترة ذاتها أى مظهر ولو كان رمزيا لهذه السيادة. هنا تتجلّى دقة المسألة وإشكاليتها. فما رآه البعض من أعمال السيادة لمصر حاول البعض الآخر تصويره باعتباره من أعمال الإدارة التى فوّضت المملكة مصر بمباشرتها لكن هذا البعض الآخر لم يجب عن سؤال ما إذا كان يجوز التفويض ببذل الدم دفاعا عن الجزيرتين؟
***البعد القانونى يتمثل فى التعقيدات الناشئة عن تطبيق حكم قانون البحار على الجزيرتين. فصنافير هى الأقرب للشاطئ السعودى فيما تبدو تيران وفقا لمراجع علمية مصدّقة أقرب للشاطئ المصرى مع تعقيد فى تطبيق قاعدة خط المنتصف. ما يثير الانتباه والدهشة هو تفاوت تقديرات المسافة الفاصلة بين تيران والساحل المصرى ما بين ثلاثة أميال وأربعة أميال ونصف الميل (!) ما تنص عليه اتفاقية الأمم المتحدة للبحار يبدو واضحا من أن الأصل هو وجوب تعيين الحدود بين الدولتين المتشاطئتين وفقا لخط الوسط المعبر عن قاعدة البعد المتساوى والمرسوم وفقا لها، وذلك ما لم توجد (أسانيد تاريخية) أو ظروف خاصة تبرر الخروج على الأصل العام. هذا يعنى أن الأصل هو تطبيق قاعدة خط المنتصف والاستثناء هو الممارسة التاريخية للسيادة. فإذا أثبت خبراء المساحة البحرية أن «تيران» ليست بحكم الأصل هى الأقرب للساحل المصرى فإنها تبقى بحكم استثناء السند التاريخى تابعةً لمصر.
السؤال الثانى هل تكفى موافقة البرلمان على الاتفاقية لخلق قبول شعبى بنقل تبعية الجزيرتين إلى المملكة الشقيقة؟ ولأنها بالفعل لا تكفى فكيف يتم التعامل مع حالة الرفض الشعبى على ضوء ما كشف عنه استطلاع رأى مركز بصيرة؟ لنقر ابتداء أن نتائج أى استطلاع تبدو قابلة للتأويل بحسب ما يريد الباحث إثباته (وتلك إحدى خصائص لعبة الأرقام) لكن الحاصل أن التيار المعارض لنقل السيادة على الجزيرتين يفوق بكثير التيار المؤيد. سؤال القبول الشعبى يتوجب أخذه باهتمام لأن تسمية «الجزر المحتلّة» التى راجت مؤخرا تبدو مقلقة فآخر ما ترغب فيه أو تتحمله مصر والسعودية معا هو إطلاق مثل هذه التسمية على الجزيرتين.
إذا سلّمنا بأن هناك عددا من المستندات والخرائط التى تمنح المملكة الشقيقة أحقية ما فى المطالبة بالجزيرتين فى مواجهة عدد آخر من الوثائق والخرائط تقطع بتعبير المحكمة الإدارية العليا بتبعية الجزيرتين لمصر فقد كان يتعين على مجلس النواب أو وزارة الخارجية تقديم ملف مفصّل وموثّق بكل الأسانيد والوثائق والخرائط لكى يُتاح للرأى العام الإطلاع على أبعاد هذا النزاع القانونى، بل ان باقى بنود الاتفاقية مثل تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة لمصر وما يدخل فيها من جزر صغيرة متناثرة ويُفترض أنه أحد إيجابيات الإتفاقية لم يكن مطروحا فى أية لحظة على الرأى العام. ولا يبدو أن ما كتبه الكثيرون (ومنهم قريبون من السلطة) بشأن أهمية الإطلاع على أسانيد وحقائق القضية قد وجد استجابة. وهكذا تجلّى المشهد بين (غياب كامل) للمعلومات والحقائق وبين (حضور متغوّل) للسلطة التشريعية دون أدنى اكتراث بحكم المادة 151 من الدستور، ودون أقل اعتبار لحكم الإدارية العليا الذى قضى بإبطال الاتفاقية، وحتى دون التحلى بحكمة انتظار ما عسى أن تحكم به الدستورية العليا فى أمر تضارب الأحكام القضائية بفرض صحة مقولة التضارب.
أن يكون للمصريين تساؤلات أو شكوك فهذا يعنى أنهم شعب غيور على ترابه الوطنى. ليس من واجب سلطة الحكم فقط أن تتفهم هذا الشعور الوطنى ولكن عليها أيضا أن تفخر به مهما كان ناشئا عن عدم علم أو عدم اقتناع. أو لم يكن هذا الشعور الوطنى هو ما تم استدعاؤه فى 30 يونيو 2013؟ وفى ظل إحجام مجلس النواب ووزارة الخارجية عن تقديم شرح واف ومقنع للاتفاقية فالأرجح أن تتراكم مشاعر الرفض بفعل الزمن لا سيما وأن مركز «بصيرة» يؤكد فى استطلاعه أن 11% فقط من المصريين هم الذين يعتقدون فى تبعية الجزيرتين للسعودية. ليس من المنطق أو المصلحة بأى معيار من المعايير أن يُترك هؤلاء بلا معلومات وإيضاحات. لا يُغنى عن هذا ولم يكن ليُغنى الإعلام المؤيد لسعودية الجزيرتين لأنه كان فى أكثريته إعلاما أضر بالقضية التى يحسب أنه يدافع عنها بأكثر مما أفادها، ثم أنه أسهم فى تعميق الانقسام واستخدم أخطر الأسلحة حين اتهم المدافعين عن السيادة الوطنية على الجزيرتين بعدم الوطنية فى (سابقة عقلية) فريدة يحار المرء فى فهمها!
***السؤال الثالث يتعلق بآثار نقل تبعية الجزيرتين إلى المملكة الشقيقة على الأمن القومى المصرى الذى أثبتت أحداث الأعوام الأخيره أنه العمود الفقرى للأمن القومى العربى كله، بل ان مصطلح الأمن القومى الذى أصبح يتردد فى الفضاء العربى قد انطلق أساسا من القاموس السياسى المصرى. دخول اتفاقية ترسيم الحدود حيز التنفيذ وفى القلب منها تغيير دولة السيادة على الجزيرتين يعنى كما هو معروف أن يصبح مضيق تيران ممرا دوليا بعد أن كان ممرا مصريا. حسنا.. يقول البعض إن مصر لم تكن تمارس على المضيق أية سلطات مثل فرض رسوم على السفن أو غيره، أو أن إسرائيل يحق لها وفقا لاتفاقية السلام المبرمة معها المرور عبر المضيق. لكن هذا كلام يمثل نصف الحقيقة فقط أما النصف الآخر للحقيقة فما زال محتاجا لإيضاحات. فهل هناك تصورات لمعالجة النتائج والتداعيات المحتملة المترتبة على هذا المتغير الجيوسياسى إذا ما جدّ فى الأمور جديد؟ السؤال مطروح بحكم أننا فى منطقة مسكونة بالقلق الاستراتيجى حيث الخرائط والسيناريوهات الجديدة معلنة ومُشهرة ولم يعد هناك قُطر عربى واحد لا يعيش أزماته الحدودية الخاصة مع جيرانه حتى فى داخل أكثر التجمعات العربية قربا وحيث تتلمظ اسرائيل متحفزة لالتقاط ما يمكنها التقاطه من هذا المتغيّر الجديد.
بنص تعبير الكاتب السعودى «جمال خاشجقى» فى صحيفة الحياة بتاريخ 16/4/2016 فإن «الرياض باتت هى القوة الأهم فى المنطقة وحان وقت تحمل مسئولياتها فى تلك المنطقة الحسّاسة التى تتمتع فيها إسرائيل بقوة ونفوذ لا تستحقانه»(!) وأن «من الأفضل عودة الجزر إلى السعودية التى تستطيع حماية مشروع الجسر المزمع إقامته بين الدولتين»(!) تعاظم القدرات السعودية بحسب تحليل الأستاذ خاشجقى أمر يسعد أى مصرى ذى انتماء عروبى قومى لكن أن يصبح مضيق تيران ممرا دوليا بعد أن كان مصريا فهذه مسألة يُفترض دراسة نتائجها جيدا. لا أعرف كيف يكون ذلك عسكريا واستراتيجيا لكنى أعرف فقط حكم القانون الدولى للبحار فى هذه المسألة، فعلى سبيل المثال ليس لطائرة أجنبية حق التحليق فوق المياه الإقليمية أو المضايق الخاضعة لسيادة دولة، كما أن الغواصات ملزمة بالطفو فوق سطح الماء رافعةً أعلامها الوطنية أثناء عبورها البرىء فى هذه المضايق
***يبقى التساؤل الأخير عما أفرزته الاتفاقية من تداعيات وتراكمات وربما مرارات بعضها يتعلق بالشكل الذى أدار به مجلس النواب ملف القضية، وبعضها الآخر بحملات الاتهام والتخوين المتبادلة، وبعضها الثالث بالتوتر الذى أصاب العلاقة بين السلطتين القضائية والتشريعية بعد حكمى القضاء الإدارى بإلغاء قرار التوقيع على الاتفافية. وإذا كانت المجتمعات الحية الواثقة لا تأنف من مراجعة نفسها فلنعترف أن وراءنا شكوكا ينبغى تبديدها وأمامنا تساؤلات يتوجب الاهتمام بها. فى الحالتين ثمة طريقٌ طويل وربما وعر قدرنا أن نمضى عليه.
الشروق