أن نتحاور حول أمر ما يعنى أن هناك العديد من الجوانب المتعلقة بهذا الأمر تتطلب إلقاء الضوء عليها بهدف إيضاح حقيقتها، ما يسهل على كل الأطراف المعنية تبنى وجهات نظر أقرب ما تكون إلى الصواب، وكلما زاد عدد الذين يدلون بآراء مختلفة حول موضوع النقاش، ظهرت نقاط جديدة كانت غائبة عن أعين الأطراف المتحاورة، ما يسمح بالمزيد من بلورة رأى سليم ورؤية جماعية موحدة تعبر عن هذه الجماعة ومصالحها المشتركة.
وتمارس الجماعات الحديثة أعمال الحوار على مستويات عديدة، وبأساليب مختلفة. وتبدأ هذه الأعمال بالحوارات التى تدور بين الأفراد على مستوى الأسرة والأصدقاء، وتتدرج صعوداً مروراً بتجمعات الأندية والنقابات والأحزاب السياسية وما إلى ذلك من التجمعات التى يدور فيها الحوار وجهاً لوجه بحضور كل الأطراف.
وفى العصر الحديث أضيفت إلى ساحات الحوار التقليدية هذه ساحة الفضاء الإلكترونى، حيث تمت الاستعاضة عن الحضور الشخصى بالحضور الافتراضى، ما أتاح رقعة لا محدودة من ساحة الحوار، وزاد معها عدد المساهمين فيه إلى أعداد غير مقيدة، وأتاح للجميع فرصة التعبير عن آرائهم بحرية ودون تدخل.
وفى الوقت الذى نقلت لنا فيه وسائل الإعلام الحوارات الجارية فى عواصم العالم الغربى حول موضوعات سياسية شديدة الأهمية تراوحت بين الإرهاب وكيفية التصدى له إلى الانتخابات الفرنسية والألمانية، ومشكلة انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، وتأثير ذلك على مستقبل الاتحاد.
وعبر الأطلسى تدور الحوارات على قدم وساق حول الأدوار التى لعبها رجال الرئيس دونالد ترامب فيما يتعلق بدور روسيا فى التأثير على الانتخابات الأمريكية، وما إذا كان الرئيس حاول إخفاء بعض المعلومات، ما يعرقل سير العدالة، وهى التهمة التى أطاحت بالرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون. وبينما كانت النقاشات محتدمة فى الأروقة البرلمانية كانت الدماء تسيل فى شوارع الدول المختلفة جراء عمليات دهس وطعن وإطلاق رصاص. بمعنى آخر، تواصلت عمليات الإرهاب المقيت فى العالم الغربى، ولكنها لم تعرقل دوران عجلات العملية الديمقراطية، وأبرز أدواتها الحوار. واستمر الحوار بنفس الزخم والقوة حينما جرت حوادث إرهابية مضادة استهدفت أفراداً مسلمين «عُزل» فى لندن، حيث جرت عمليات دهس لمسلمين أثناء خروجهم من المسجد بعد أداء صلاة التراويح، كما فقدت فتاة مصرية مسلمة من أصل نوبى حياتها حينما طعنها إرهابى بآلة حادة بعد أن أدت صلاة الفجر فى أحد المساجد بولاية فرجينيا الأمريكية.
ونتيجة الحوارات ستجد هذه الدول الحلول المرضية لجميع المشكلات، بسبب مشاركة الخبراء والمختصين بآرائهم وإتاحة الوقت الكافى أمامهم للتعبير عن هذه الآراء.
وفى مقابل هذه الصورة، كانت مصر منهمكة فى متابعة المناقشات التى جرت فى مجلس النواب حول موضوع بالغ الأهمية، وهو موضوع اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والمملكة العربية السعودية، وقد كشفت هذه المناقشات أن صدور جميع المشاركين فى النقاش، تضيق بالرأى الآخر. فالكل يرى أن رأيه عين الصواب، وأن رأى الآخر خطأ كلية، ولا يستحق أن يطرح أو يقال. والنتيجة أن هذا الموضوع البالغ الأهمية لم يستغرق نقاشه أكثر من ثلاثة أيام، وانتهى إلى موافقة الأغلبية على الاتفاقية رغم عدم رضاء جانب لا يستهان به من الرأى العام عنها، حسبما أظهر استطلاع للرأى العام أجراه مركز بصيرة للبحوث الذى يحظى بالمصداقية والاحترام.
انتهى النقاش داخل البرلمان، ولكنه اشتعل فى كل مكان يلتقى فيه جمع من الناس. وسوف تستمر المناقشات المجتمعية بحثاً عن إجابات لأسئلة لم تطرح فى المنتديات الرسمية. وعندئذ سيتبلور رأى عام إزاء الموضوع يتعين احترامه. والبديل إصابة المجتمع بشرخ يصعب علاجه.
الوفد