حاول البروفيسور الأمريكى الشهير فى جامعة هارفارد، جوزيف ناى، أن يصوغ العلاقة بين الإعلام والرأى العام فى كتابه المهم: «القوة الناعمة: سبل النجاح فى عالم السياسة الدولية»، فقال إن «المعارك لا يمكن أن تُربح فقط فى ميادين القتال، وإن الكاسب فى الحرب هو ذلك الذى تكسب قصته فى الإعلام».
يمكن شرح ما خلص إليه «ناى» ببساطة شديدة فى أن تصورات الجمهور عن الأحداث كثيراً ما تقوم مقام «الحقيقة» مهما كانت بعيدة عنها، وهو ما جعل الكثيرين يؤمنون بالقول الغربى السائر Perception Is Reality أى «التصور هو الحقيقة».
يأخذنا هذا الأمر إلى الدور المتصاعد للرأى العام فى صنع السياسات ورسم الصور الذهنية للدول والحكومات والقادة، وهو دور بات يحتل أهمية كبرى ضمن آليات صنع القرار فى مختلف الدول.
ويُنصح القادة عادة بانتهاج سياسات تحظى بإجماع تقليدى من المؤسسات وتأييد من القطاعات الغالبة فى الجمهور، لأن هذا الأمر يجعل تقبلها أسهل، ويؤّمن لها الدعم اللازم، مهما كانت إشكالية أو مثيرة للجدل على مستوى النخب.
على مر التاريخ، حظى عدد من الدول والجماعات بقادة استثنائيين، وهؤلاء القادة اضطروا أحياناً إلى اتخاذ قرارات مصيرية، جاءت عكس الإجماع التقليدى المبدئى للمؤسسات، وضد التيار الغالب فى الرأى العام المحلى.
لقد كان لزاماً على هؤلاء القادة أن يطوروا خطط تسويق إعلامى لسياساتهم، وأن يستندوا إلى الذرائع المنطقية التى تساند تلك السياسات فى إقناع الجمهور والمؤسسات بها، وفى كل الأحوال لم يكن بوسع أى قيادة أن تسوق قراراً فاقداً لهذا الدعم الحيوى، وأن تؤمّن له النجاح والاستدامة.
نحن نعرف الآن أن قرار الرئيس السيسى بمنح جزيرتى تيران وصنافير للسعودية لا يحظى بإجماع المؤسسات المصرية، بل ثمة من المؤسسات من يرفضه تماماً ويدينه ويعتبره نكوصاً عن مبادئ المسؤولية القانونية والسياسية والوطنية.
ونحن نعرف أيضاً أن هذا القرار لا يجد دعماً شعبياً مناسباً، بل إنه يواجه رفضاً واضحاً، لا يعبر عنه فقط استطلاع رأى مركز «بصيرة»، الذى يشير إلى أن 47% بين المستطلعة آراؤهم يعتقدون أن الجزيرتين مصريتان، بل أيضاً لأننا نتابع «السوشيال ميديا»، ونقرأ الصحف، ونتحدث مع الجمهور فى الشوارع، ونناقش أقاربنا ومعارفنا فى الأحوال العامة، ونستنتج من ذلك أن غالبية الرأى العام ترفض القرار، وتعتبره خاطئاً فى أفضل الأحوال، أو خيانة وجريمة فى أكثرها سوءاً.
إن الذرائع التى تبرر إقدام الدولة على هذا القرار لا تعكس حساً سياسياً، ولا تتسق مع حجم المسؤولية التى ستترتب على التصرف فى قطعة من الأرض تعتبرها غالبية الشعب جزءاً من التراب الوطنى. على الرئيس أن يعيد بحث الأمر بروية، فما سيبقى عنه ويُدون فى التاريخ ليس ما حملته عليه نواياه وما دفعته إليه سجاياه، ولكن ما سيتصوره الجمهور عن تصرفاته وسياساته.
منح السعودية الجزيرتين سيضر بعلاقاتنا مع هذا البلد الشقيق المساند لنا، وهو أمر له عواقب خطيرة، كما سيعيد صياغة صورة الرئيس فى الوعى الجمعى وفى السجل الوطنى، وهى صورة ستكون أسوأ من أى انطباع أو تصور، والأفضل العودة عن هذا القرار، والبحث عن سبيل آخر لتسوية الأمر من دون خسارة العلاقات الحيوية مع السعودية، لأن العناد وتجاهل غضب الناس له تكاليف أفدح من أى تصور
المصرى اليوم