أكتب هذه السطور وقد دخلت المواجهة بين أنصار الإخوان المسلمين وقوات الأمن مرحلة يبدو أنها ستكون الأخيرة بعد تصعيد من جانب الأولين لنقل المواجهة إلى مناطق جديدة ومحاولة الآخرين وضع حد لهذا الموقف استعادة لسلطة الدولة ونزولا على إرادة كثير من المواطنين الذين ضاقوا بهذا الموقف. ويصف أنصار الإخوان موقفهم بأنه دفاع عن الشرعية، وترفض قطاعات واسعة من الكتاب والمواطنين هذا الوصف. ولذلك أصبح مفهوم الشرعية سلاحا معنويا يستعين به كل طرف لتبرير موقفه وكسب مؤيدين له. فما هى صحة هذه الادعاءات وعن أى شرعية يتحدث كل طرف؟
الواقع أن قضية الشرعية هى أحد التحديات الكبرى للنظم السياسية فى الدول التى لم تستقر فيها مؤسسات الحكم والسياسة، والتى تجاهد النخبة الحاكمة فيها للتأكيد على أن بقاءها فى السلطة لا يستند إلى استخدامها لأدوات القهر من شرطة ومحاكم وسجون، وإنما يستند إلى أسس أخرى تجعلها مقبولة لدى المواطنين. ولا شك أن النظام السياسى فى مصر يواجه هذا التحدى منذ أن أصبح المصريون مسئولين عن وضع نظامهم السياسى بأنفسهم بعد حصول مصر على درجة من الاستقلال الذاتى بموجب تصريح 28 فبراير 1922 والذى أعقبه صياغة دستور 1923. ومع ذلك لم تحسم هذه القضية بعد.
وربما يكون من المفيد التمييز بين جوهر الشرعية والأسس التى تستند إليها، جوهر الشرعية هو القبول الطوعى من جانب المواطنين لمؤسسات الحكم فى وطنهم. لا يضطرون للخضوع لها خوفا من السجن أو الملاحقة القضائية أو أى صورة من الاضطهاد. وقد حدد علم السياسة عددا من الأسس التى يتحقق معها هذا القبول الطوعى منها أن يستند نظام الحكم إلى التقاليد والتراث الثقافى للشعب بما فى ذلك العقائد الدينية، وهذا هو ما تعرفه نظم الحكم فى دول الخليج العربى، ومنها القدرات غير العادية التى يتمتع بها قائد الدولة أو مؤسساتها، وخصوصا عندما يتمكنون من العبور بأوطانهم بنجاح من مخاطر تتهددها وهو ما يسمى بالقيادة الكاريزمية. وكان ذلك حال مصر خلال فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وقد يكون الالتزام بحكم الدستور والقانون أساسا ثالثا للشرعية، وهذا هو الحال فى النظم السياسية الديمقراطية فقبول الأمريكيين أو الفرنسيين أو السويديين لنظم حكمهم يقوم على اتساقها مع القوانين واحترام القادة السياسيين لها. ويضيف البعض أساسا رابعا وهو الشرعية الثورية والتى تقوم على العكس على تحقيق مصالح أغلبية المواطنين حتى بتجاهل القوانين التى كانت سائدة فى هذه البلدان قبل قيام هذه الثورات. وهذا هو مضمون ادعاء الشرعية فى النظم الثورية التى عرفها العالم فى القرن العشرين فى الاتحاد السوفيتى السابق وفى الصين الشعبية وكوبا.
فما هى أسس الشرعية التى يحتج بها أطراف الاستقطاب السياسى فى مصر فى الوقت الحاضر؟. أنصار الدكتور مرسى يحتجون بالشرعية الدستورية والقانونية. يقولون عن حق إنه وصل إلى منصب رئيس الجمهورية وفقا للإعلان الدستورى الصادر فى 30 مارس سنة 2011، وأنه مارس سلطاته وفقا للدستور الصادر فى سنة 2012، وأن نهاية حكمه يجب أن تكون وفقا لما جاء فى هذا الدستور، أى بعد أربع سنوات من توليه منصبه، أى فى آخر يونيو 2016، ويرى بعضهم أنه جاء لتطبيق الشريعة الإسلامية، فحكمه هو حكم إسلامى، والخروج عليه هو خروج على الإسلام، ومن ثم فهو يستند إلى أساسين للشرعية: الشرعية الدستورية القانونية والشرعية الدينية، ولم يدع أى من أنصار مرسى أنه يملك قدرات غير عادية تؤهله ليكون قائدا كاريزميا، كما سخر بعض المدافعين عنه من مفهوم الشرعية الثورية مكتفين بالشرعية القانونية..
والواقع أن أيا من الادعاءين لا يصمد كثيرا أمام واقع حكم الدكتور مرسى. فالقول بأنه يستند إلى حكم القانون والدستور يقابله من الناحية الأخرى انتهاكه هو للدستور والقانون، فلا يمكن القول بأن الرئيس المنتخب وفقا لهما يظل متمتعا بشرعيته عندما يخرج عليهما، وليس من العسير ذكر أمثلة لا تحصى على خروجه على الدستور والقانون ومنذ أيامه الأولى بتجاهل حكم المحكمة الدستورية ببطلان قانون انتخاب مجلس الشعب ودعوته مجلس الشعب للانعقاد بعد صدور هذا الحكم، وبإصداره الإعلان الدستورى فى نوفمبر 2012 الذى منح فيه لنفسه سلطات مطلقة خلافا لما جاء فى الإعلان الدستورى سنة 2011 الذى انتخب على أساسه وحنثا بقسمه على احترام الدستور والقانون، فضلا عن تعيينه لنائب عام بالمخالفة لدستور وضعه أنصاره. وتبطل كل هذه الممارسات حجية ادعاء أنصاره أنه يجب أن يبقى فى منصبه التزاما بحكم دستور هو نفسه لا يحترمه. أما عن الادعاء بأنه يستند إلى شرعية دينية فهو مغالطة كبرى ليس فقط لأنه ليس هناك مثل واحد على تطبيقه للشريعة الإسلامية فى حكمه، حتى وإن ادعى بعض أنصاره أن فكرة الصكوك التى وافقت حكومته على إدخالها هى تطبيق للشريعة الإسلامية، لأنه وفق رأى الخبراء فهى مجرد أداة تمويلية عادية ليس فيها من الإسلام سوى اسمها، والأهم من ذلك أن من انتخبوه فعلوا ذلك اعتقادا منهم أنه سيصبح رئيسا للجمهورية وليس خليفة للمسلمين، ولم يعطوه تفويضا لتطبيق الشريعة التى لا يعرف هو ولا أنصاره كيف سيتم تطبيقها على ضوء صعوبة الإتفاق على كيفية الأخذ بها فى مجتمع القرن الحادى والعشرين.
وربما يكون من الأهم البحث فى أصول المسألة بدلا من الاستغراق فى بحث أسس الشرعية. الشرعية فى جوهرها هى القبول الطوعى للمواطنين بمؤسسات الحكم وقيادات الدولة. وهناك العديد من الدلائل التى تشير إلى فقدان الدكتور مرسى هذا القبول من جانب كثير من المواطنين بمن فيهم من انتخبوه أصلا كما أظهرت ذلك حشود المواطنين فى 30 يونيو و26 يوليو. أولى هذه الدلائل أن الذين انتخبوا الدكتور مرسى فى الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية كانوا قرابة ربع أصوات الناخبين، هم أنصار الإخوان المسلمين بينما لم يكن هو المرشح المفضل لثلاثة أرباعهم، وحصل فى الجولة الثانية على 51.73% من الأصوات. أى أن قرابة 28% من غير الإخوان المسلمين قد أعطوه أصواتهم أملا أن يكون معبرا عن طموحات ثورة 25 يناير، ومن المؤكد أن هؤلاء الذين مكنوه من الفوز فى الجولة الثانية قد انصرفوا عنه لأنه لم يسع للحفاظ على تأييدهم له، لأن الرموز التى عبرت عن هؤلاء الناخبين مثل عبدالمنعم أبوالفتوح وحمدين صباحى وربما عمرو موسى قد وجهوا أشد النقد له ولأسلوب حكمه. وتؤكد استطلاعات الرأى هذا الاستنتاج، فقد انخفضت نسبة الموافقين على أدائه من المستويات العالية خلال الأيام المائة الأولى من حكمه وفقا لاستطلاعات مؤسسة بصيرة، من 79% ممن استطلعت آراؤهم إلى 32% فقط بعد عام من حكمه، ولم يبد أكثر من 25% من العينة استعدادهم للتصويت له فى انتخابات رئاسية قادمة.
لقد فقد الدكتور مرسى أى أساس للشرعية، انتهك الدستور والقانون فلم يعد يتمتع بالشرعية الدستورية، وانصرف عنه أغلب المواطنين سوى أنصار تيار الإسلام السياسى فضاع منه جوهر الشرعية وهو الرضاء الطوعى للمواطنين. أليس من صالح أنصاره أن يدركوا هذه الحقائق ويتعلموا منها الدروس، ويجنبوا الوطن مخاطر صراع لا يفيدهم ولا يفيد الوطن.
الشروق