يعجب المتتبعون لاستطلاعات الرأى العام من مصداقيتها العالية فى الدول المتقدمة، والتى تقترب فيها استطلاعات الرأى قبل الانتخابات فى معظم الأحيان من نتيجة الانتخابات عندما تظهر. بل إن استطلاعات رأى الناخبين والتى تتم عند خروجهم من مراكز الاقتراع وتعلن فى فرنسا مثلا فى مساء يوم الاقتراع تقترب كثيرا من النتائج النهائية للانتخابات. وعندما نذكر ما توقعته بعض استطلاعات الرأى فى مصر قبل الانتخابات الرئاسية فى يونيو 2012.
نجد فارقا كبيرا مع ما يجرى فى هذه الدول المتقدمة، إذ لم يتنبأ أى منها لا بفوز الدكتور محمد مرسى ولا بنسبة الأصوات التى حصل عليها. فهل يعنى ذلك أن أهواء الذين أشرفوا على هذه الاستطلاعات هى التى صبغت أعمالهم، ومن ثم كانت هذه الاستطلاعات كاشفة ليس عن نوايا الناخبين، ولكن عن الميول السياسية لمن أجروا هذه الاستطلاعات. وقد لقى بعضهم الكثير من السخرية بل والتشكيك فى سلامة مقصدهم فى تعليقات العديد من الكتاب.
والواقع أن استطلاعات الرأى هى أداة مفيدة فى التعرف على اتجاهات الرأى العام، ولكن لابد من مراعاة الأوضاع الخاصة بكل بلد، وبلحظة إجراء هذه الاستطلاعات عند محاولة تفسيرها.
وإذا ما نحينا جانبا الصعوبات السياسية التى تواجه إجراء استطلاعات الرأى العام فى بلدان تتعرض حرية البحث العلمى فيها فى قضايا السياسة لقيود شديدة، ولابد من التذكرة هنا بأن إجراء استطلاعات الرأى العام بالمقابلة يقتضى أولا الحصول على تصريح رسمى من الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، والذى يسأل فى العادة عددا من أجهزة الأمن قبل الموافقة على منح هذا التصريح، ولا يتم ذلك إلا بعد موافقة كل هذه الأجهزة على الأسئلة التى سيتضمنها الاستبيان الذى يشمل الأسئلة التى ستوجه للمواطنين.
ويحدث كثيرا أن يتدخل أحد هذه الأجهزة ويطلب حذف أسئلة معينة وخصوصا تلك التى تتعلق برأى المواطنين فى مؤسسات الدولة، وموقفهم من القضايا الدينية. إذا ما نحينا هذه الصعوبات جانبا، ومعها أيضا ما يتعلق بشك المواطنين فيمن يجرى مثل هذه الاستطلاعات وسعيهم للإجابة عن النحو الذى يتصورون أنه يريده، فإن هناك صعوبات أخرى تتعلق بطبيعة المجتمعات التى تمر بتحولات سريعة وكذلك بلحظة القيام بهذه الاستطلاعات.
القارئ يعرف مثلا أن هذه الاستطلاعات تتم بأسلوب العينة، أى أن من توجه لهم الأسئلة هم مجموعة محدودة من المواطنين قد لا يتجاوزون بضعة آلاف لا يزيدون ربما على أربع آلاف أو أقل. فكيف يمكن التعميم من هذه العينة الصغيرة جدا والقول بأن الاتجاهات التى تتكشفها هى ما يسود بين عشرات الملايين من المواطنين فى نفس بلد مثل مصر. المفترض أن العينة ممثلة لكل المواطنين والمواطنات، بمعنى أن الذكور والإناث، والريفيين والحضريين، والمتعلمين وغير المتعلمين، والأغنياء والفقراء، كلهم ممثلون داخل هذه العينة بنفس نسبة تواجدهم فى الوطن.
ولذلك إذا كانت أغلبية المتعلمين فى العينة المشار إليها فى الاستطلاع الذى أجراه مركز بصيرة لحساب جريدة الشروق قد فقدت ثقتها بالدكتور مرسى رئيسا لمصر، فهل يعنى ذلك أن أغلبية المتعلمين خارج العينة، أى الذين لم يلتق بهم من قاموا بإجراء هذا الاستطلاع هم أيضا فقدوا ثقتهم بالدكتور مرسى وبنفس النسبة. مثل هذا الاستنتاج صحيح فى الدول المتقدمة لأنها مجتمعات قد استقرت نسبيا، وتبلورت فيها ملامح المواقف السياسية لشرائح السكان المختلفة، أما فى المجتمعات النامية كحالة مصر.
فالملامح الأساسية لمواقف المواطنين من القضايا السياسية وااإجتماعية لم تتبلور بصورة محددة بعد. الأكثر تعليما فى الولايات المتحدة مثلا قد يتخذ مواقف أكثر تقبلا للمساواة العنصرية، ولكن الأكثر تعليما فى مصر يمكن أن يكون أكثر تدينا أو أقل تدينا، وقد يكون من أنصار القطاع العام أو من خصومه، وقد يكون من المتحمسين للعروبة أو قد يكون كافرا بها.
ومن ثم فالتعميم على شريحة المتعلمين على ضوء ما تكشف عنه استطلاعات الرأى قد لا يكون دقيقا تماما لأن هناك عوامل أخرى تحدد المواقف من القضايا الاجتماعية والسياسية بخلاف التعليم وبأكثر مما هو الحال فى الدول المتقدمة والتى استقرت فيها انجاهات الشرائح الاجتماعية الرئيسية منذ فترة من الزمن.
والصعوبة الثانية هى التقلب السريع للرأى العام فى المجتمعات التى تمر بتحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية سريعة مثل مصر، فما قد يكون اتجاها صحيحا لبعض الشرائح هذا الشهر قد لا يكون كذلك فى الشهر القادم. ماذا يكون موقف الرأى العام من حكومة الدكتور مرسى لو كانت شركات النفط قد اكتشفت حقولا واسعة من النفط أو الغاز الطبيعى خففت من حدة مشكلات الطاقة وميزان المدفوعات ومكنت الحكومة من الوفاء بوعودها بحل مشاكل الحياة اليومية للمواطنين.؟ هل كان السخط على حكومة الدكتور مرسى سيستمر وبنفس الدرجة؟.
دلالات هذا الاستطلاع
ومع ذلك لا ينبغى رفض جهود مراكز استطلاعات الرأى العام فى مصر، فهناك دلالات مهمة نستخلصها من هذه الاستطلاعات مع التزام الحذر عند محاولة تعميمها أو اعتبارها كاشفة عن اتجاهات الرأى العام على المدى المتوسط أو البعيد. سوف يكون غريبا حقا أن يظل الرأى العام على نسبة التأييد العالية التى حصل عليها الدكتور مرسى فى الشهر الأول لتوليه رئاسة الجمهورية وقد أظهرت إدارته لشئون البلاد درجة عالية من افتقاد الخبرة والبعد عن المشورة والتخبط.
لا أظن أن هناك شكوكا كثيرة تحيط بهذا الاستنتاج، ولكن ما يثير التأمل حقا هو اختيار هذه العينة لشخصيات مثل الدكتور الجنزورى أو الفريق شفيق أو الفريق أول عبد الفتاح السيسى رئيسا مفضلا للبلاد. وعدم اختيارهم لشخصيات معارضة فى المحل الأول. هذا التوجه هو وثيق الارتباط بفقدان الثقة فى كفاءة الدكتور مرسى. وكفاءة قيادات المعارضة.
كثير من أفراد هذه العينة يفتقدون فى الدكتور مرسى الخبرة فى إدارة شئون البلاد ويجدونها فى الدكتور الجنزورى، ولا يجدون فيه سرعة فى اتخاذ القرار ويلمسون ذلك فى الفريق شفيق، ولا يجدون فيه قدرة على تحقيق الأمن، ويتصورون أن ذلك ما قد ينجح فيه الفريق أول عبد الفتاح السيسى. هناك منطق فى اتجاهات هذه العينة من المواطنين الذين أجابوا عن أسئلة بصيرة. فليتبصر فى ذلك أولوا الأمر.
الشروق